الإلحاد والأخلاق: هل يمكن تبرير القيم في عالم مادي؟

الإلحاد والأخلاق: هل يمكن تبرير القيم في عالم مادي؟

 

الإلحاد والأخلاق: هل يمكن تبرير القيم في عالم مادي؟

الإلحاد والأخلاق: هل يمكن تبرير القيم في عالم مادي؟

 البرهان الأخلاقي: معضلة الأخلاق بدون إله -تحليل فلسفي-

<تنبية>  

قبل أن نبدأ في سلسلة البرهان الأخلاقي، أنا لا أدّعي بأي شكل من الأشكال عدم أخلاقية غير المؤمنين، ولا أن كل المؤمنين أخلاقيون، وذلك لأن الإطار العام للأخلاق، والذي يقع بين طرف الخير وطرف الشر، مغروس في فطرة ونفس كل إنسان، كما قال تعالى في سورة الشمس: "ونفسٍ وما سوَّاها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكَّاها * وقد خاب من دسَّاها".

ومن المعلوم أن هذه الفطرة لا تعني حتمية التصرف بمقتضاها.  

فلابد أن نميّز بين الأخلاق من حيث وجودها، ومن حيث مرجعيتها، ومن حيث وجوبها.

فالمسلم يقر بالأخلاق وجودًا، ومرجعيتها هي الله عز وجل، سواء في غرسها إجمالًا في الفطرة أو في تقريرها تفصيلًا في الشرع، ويرى أنها واجبة الاتباع من منطلق الشرع.

أما الملحد فقد يكون شخصًا أخلاقيًّا، لكنني أزعم - وبذلك الزعم أنا زعيم - أنه لا يستطيع أن يبرر سبب كونه أخلاقيًّا، وأنا في هذه السلسلة مهمتي إثبات زعمي هذا.  

❂ تعريف الأخلاق:

ما المقصود بالأخلاق؟. الأخلاق في اللغة هي جمع خُلُق [بضم الخاء وضم وتسكين اللام]، والخُلُق في اللغة يُستخدم مع عدد من المعاني، فقد يشير إلى الشخص حسن الهيئة، وهذا يشير إلى الشكل الخارجي للأشخاص، أو قد يُقصد بها حُسن الطبع، وهو ما يشير إلى الطبع الداخلي.  

وكلمة الخُلُق تشير إلى الأخلاق كلها، الطيب منها والقبيح، المحمود منها والمذموم؛ فالصدق خُلُق والكذب أيضًا خُلُق، لكن الصدق خُلُق طيب والكذب خُلُق مذموم.  

أما الأخلاق اصطلاحًا فتعريفاتها متعددة، فمنها على سبيل المثال أنها "غرائز كامنة تظهر باختيار صاحبها وتقهر بالاضطرار".

❂ الأخلاق الموضوعية:

ما المقصود بالأخلاق الموضوعية؟. المقصود بالأخلاق الموضوعية أننا نحكم على الأخلاق ببُعد يتجاوز الأعراف والمجتمع والذات الشخصية.

فهي الطبع الذي يُلزم صاحبه بالفعل أو عدم الفعل مهما كان الشخص أو المجتمع، وإن عارضت رغباته.

فالظلم قبيح وإن أقر المجتمع كله بخلاف ذلك، فالأخلاق ملزمة بذاتها. 

يقول في صدد ذلك حمزة تزورتزس:

"وبطريقة أخرى، الحقائق الأخلاقية الموضوعية تتجاوز الذاتية البشرية. على سبيل المثال، حقيقة أن قتل طفل في الخامسة من العمر سيكون دائمًا خطأ أخلاقيًّا، حتى لو اتفق العالم كله على أن قتل طفل صغير أمر صحيح من الناحية الأخلاقية."


❂ شروط الأخلاق:  

كيف أكون شخصًا أخلاقيًّا؟. ما المطلوب مني أن أتصف به؟. من التعريف يمكننا أن نعرف أن المطلوب منك أن تكون متصفًا بما يلي:  

⓵ الإرادة الحرة:

بما أننا عرَّفنا الأخلاق على أنها أفعال، فالأفعال لا تكون إلا بإرادة، وأهمية الإرادة في الأفعال أنها الرابط بين الفاعل وأثر فعله، فإذا كان الفاعل مريدًا لفعله، أصبح الفاعل مسؤولًا عن أثر فعله أيضًا، وإذا كان الفاعل غير مريد، أصبح الأثر غير مقصود.

يقول الفيلسوف الأمريكي روبرت كاين:

"الإرادة الحرة هي: النشوء غير المشتق أو الملكية الفردية الضرورية لعدد من الأمور التي يبتغيها البشر بشكل عام أو تستحق الطلب، ومن المرشحين لهذه الأمور الجيدة المسؤولية الأخلاقية."


⓶ الاستثنائية الإنسانية:  

من الواضح أننا لا نطالب الحيوانات بمعايير أخلاقية، فالأرنب مثلًا لا يعترض على أن الأقوى منه يأكله، بل هو يرى أن هذه هي الحياة ولا يقول إن هذا غير أخلاقي، إنما يسعي فقط للتكيف مع هذا الوضع وفق المتاح من قدرات وإمكانيات.

حتى إن عبارة "قانون الغاب" تشير إلى تحول المجتمع الإنساني إلى مجتمع حيواني مبني على القوة لا على القيم المطلقة، وهذا يعني أننا كبشر نرفع من مكانتنا فوق باقي الحيوانات، ونرى أنفسنا مطالبين بمعيار أخلاقي لتصرفاتنا، وهذه الفكرة تُسمى "الاستثنائية البشرية Human Exceptionalism".  

يقول الدكتور جريج هنريكيس معرّفًا الاستثنائية البشرية:

"الفكرة القائمة على أن البشر فريدون وكائنات مختلفة يجب عليها أن تضع أسسًا قيمية أخلاقية تتناسب مع تلك الفرادة."


❂ العلاقة بين العدمية والإلحاد:

المقصود بالعدمية هو أن أفعالنا ووجودنا لا قيمة حقيقية له، يقول الفيلسوف الأمريكي ألن برات:  

"العدمية الوجودية هي المفهوم القائل بأن الحياة ليس لها أي معنى أو قيمة ذاتية، وهذا بلا شك هو المفهوم الأكثر انتشارًا للكلمة اليوم."

حسنًا، ما علاقة ذلك بالإلحاد؟. في الواقع، إن الالتزام بالمادية يعني بالضرورة أن أي سؤال في الطبيعة تجيب عليه العمليات الطبيعية، ونحن نعلم أن الطبيعة ليست شيئًا واعيًا، بل هي مجرد أجسام مادية تتفاعل مع بعضها لتنتج التأثيرات التي نشاهدها، وبالتالي فإن الطبيعة نفسها فاقدة لأي قيمة، وهذا الأمر واضح عند الملحدين مثل دوكنز، حيث يقول:

"في كون من القوى الفيزيائية العمياء والنسخ الجينية، بعض الناس سوف يتأذون وآخرون سوف يكونون محظوظين، ولن تجد أي نسق أو سبب في ذلك، ولا عدالة. الكون كما نرصده فيه المواصفات التي يجب أن نتوقعها، ففي القاع لا يوجد تصميم أو هدف، لا يوجد شر أو خير، لا يوجد غير اللامبالاة العمياء."

❂ الآن، بعد هذه المقدمة وتعريفنا للأخلاق وشروطها، هل ينطبق أي منها على الملحد؟. في الواقع، لا.  

⓵ انتفاء الإرادة الحرة:  

يطرح المنظور المادي للإلحاد إشكالية عميقة في مفهوم الإرادة الحرة. إذا كنا -كما يرى الماديون- مجرد مجموعة معقدة من الجزيئات تخضع لقوانين الفيزياء، وبذلك يكون الإنسان مساويًا للحيوان، مساويًا للحجر والشجر، مساويًا للأجرام السماوية، مساويًا للحركة العمياء المعدومة الإرادة. فكيف يمكننا الحديث عن اختيار حقيقي أو مسؤولية أخلاقية؟.

هذا التساؤل يحيلنا إلى مفارقة صعبة: إما أن نؤمن بالإرادة الحرة (مما يتطلب وجود عنصر غير مادي)، أو نعترف بأن أحكامنا الأخلاقية مجرد وهم!.  

يقول الملحد الفيزيائي ستيفن هوكينغ:  

"على الرغم من إحساسنا بالقدرة على اختيار ما نفعله، إلا أن وعينا بالأساس الجزيئي للبيولوجيا قد أوضح أن العمليات البيولوجية تكون محكومة بقوانين الفيزياء والكيمياء، ولذلك فهي محددة تمامًا، مثل مدارات الكواكب. وتدعم تجارب علم الأعصاب الحديثة الرؤية القائلة: إن دماغنا المادي يخضع لقوانين العلم المعروفة التي تحدد أفعالنا، وليس لبعض القوى الموجودة خارج تلك القوانين. فعلى سبيل المثال، عند دراسة المرضى الذين أجريت لهم جراحة في المخ أثناء اليقظة، وجد أنه بإثارة بعض الأماكن المعينة في المخ كهربائيًّا يمكن للمرء أن يولد لدى المريض رغبة في تحريك اليد أو الذراع أو القدم أو تحريك الشفاه والتحدث. من الصعب تخيل كيف تعمل الإرادة الحرة إذا كان سلوكنا يحدده القانون المادي، ولذلك يبدو أننا لسنا أكثر من آلات بيولوجية وأن الإرادة الحرة مجرد وهم."


⓶ انتفاء الاستثنائية الإنسانية:

مما سبق يتضح أن الملحد بقوله بالمادية فإنه بذلك ينفي أن له ما يميزه عن غيره من الكائنات. فبالإضافة إلى تبنيه الفكر التطوري القائل بتطور الإنسان عن سلف مشترك مع الشمبانزي، فإنه بذلك يقول إنه مجرد حيوان متطور. ونحن كبشر لا نطالب الحيوانات أن تكون أخلاقية، فبالتالي لا معنى لأن نطالب أحد الحيوانات -المتطورة- أن يكون أخلاقيًّا. 


في الختام وبعد هذا التحليل، يبدو أن الإلحاد المادي يواجه تحدياً جوهرياً في تبرير الأسس الفلسفية للأخلاق. لكن هذا لا يعني نهاية النقاش، بل لنا لقاء ولقائات.


تعليقات