تفكيك الاعتراضات الإلحادية على الأخلاق الإسلامية: من يوثيفرو إلى المغالطات

تفكيك الاعتراضات الإلحادية على الأخلاق الإسلامية: من يوثيفرو إلى المغالطات

تفكيك الاعتراضات الإلحادية على الأخلاق الإسلامية: من يوثيفرو إلى المغالطات

 تفكيك الاعتراضات الإلحادية على الأخلاق       الإسلامية: من يوثيفرو إلى المغالطات

البرهان الأخلاقي: معضلة الأخلاق بدون إله -تحليل فلسفي-

بعد أن أثبتنا في المقال الأول استحالة تبرير الأخلاق موضوعيًّا دون مرجعية إلهية، وكشفنا في المقال الثاني عن تناقضات المذاهب الإلحادية في تفسير القيم الأخلاقية، نصل اليوم إلى المحطة الأكثر إثارة في رحلتنا الفكرية:

تفنيد أشهر الاعتراضات على المنظومة الأخلاقية الإسلامية، حيث سنكشف:

- كيف تُختزل معضلة يوثيفرو التاريخية عند تطبيقها على الإسلام؟. (مع تحليل فلسفي جديد)

- لماذا تُعد فكرة "الدين يحتوي أمورًا غير أخلاقية" مصادرة على المطلوب؟. (بأدلة عقلية ونقلية)

- الخدعة المنطقية في مقارنة أخلاق الأفراد بدل المذاهب. (باستخدام منهج الدكتور المسيري في النقد العلماني)

فعندما فشل الملحدون في الإجابة عن السؤال الأخلاقي من حيث وجود الأخلاق، ومصدرها، ولماذا نشعر بأنها ملزمة لنا، اتجهوا إلى نقد المذهب الأخلاقي الديني. فسنعرض أشهر هذه الشبهات وردها.  


 معضلة يوثيفرو - أصل الأخلاق: 

معضلة يوثيفرو هي معضلة فلسفية عُرضت في كتاب حوار أفلاطون "يوثيفرو"، حيث سأل سقراط يوثيفرو - وكان شخصًا يؤمن بأن مصدر الأخلاق هو الإله - قائلًا: هل التقاة محبوبون من الآلهة لأنهم تقاة، أم أنهم تقاة لأنهم محبوبون من الآلهة؟ والمعنى: هل الله أراد شيئًا لأنه جيد، أم أنه جيد لأن الله أراده؟.

غرض هذه الشبهة هو نفي كون الله مرجع الأخلاق. فإذا قلت إن الأخلاق حسنة لأن الله أمر بها، فهذا يعني أن الأخلاق ليس لها معيار إلا إرادة الله فقط. فإذا أمر الله بقتل كل شخص مريض، فإن القتل حينئذ سيكون أمرًا حسنًا. وإذا أراد الله أن ينهى عن الصدق والرحمة، فسيكونان حينئذ أمرين قبيحين.  

وإذا قلت بالاحتمال الثاني، أن الله أمر بالأخلاق لأنها حسنة في ذاتها، فهذا يعني أن الأخلاق مستقلة عن ذات الله، ولها وجود قائم بنفسها بعيدًا عن الله، وحاكمة على اختياراته وإرادته. وهذا يناقض تمامًا القدرة والعلم الإلهيين، ويدل أيضًا على أن الإله خاضع لمعايير أعلى منه وأقدم. ويدل أيضًا على أننا لسنا بحاجة إلى الله ليكون مصدرًا للأخلاق، لأنه يمكننا أن ندرك تلك المعايير التي كانت حاكمة على إرادة الله فنحكم بها. فلا يدل وجود الأخلاق إذن على ضرورة وجود الخالق.  

الرد على معضلة يوثيفرو:

والرد أن هذه الشبهة مبنية على أساس وتصور عقلي خاطئ أصلًا، فنتج عنه الوصول إلى عرض متن خاطئ، وبالتالي الوصول إلى نتيجة خاطئة.  

⓵ مغالطات التصور العقلي:  

① أن المعضلة تستند إلى التصور اليوناني عن الآلهة، وهو تصور يقول بتعدد الآلهة وتحاربها ونقصها. فبالتالي، لا يمكن تطبيق هذا التصور على الأديان التوحيدية أو القائلة بكمال الخالق.  

② أنها تقوم على تصور خاطئ عن علاقة الله بالموجودات. فالله تعالى هو الخالق لكل شيء في الوجود، سواء كان ذلك الشيء من الأمور الحسية مثل الجبال والشجر، أو من الأمور المعنوية مثل معنى الرحمة وحسن الصدق وقبح الكذب وغيرها. فلا يوجد شيء من المحسوسات أو من المعايير والسنن إلا وهو مخلوق من مخلوقات الله. فكل هذه الأمور مخلوقة لله تعالى، وهو الذي صنعها وهيأها على هذا الحال، ولا شيء يخرج عن قدرته وإرادته.  

③ أنها مبنية على تصور ناقص عن صفات الله، فتتحدث عن الإرادة وتتجاهل الحكمة الإلهية. وصاحب المعضلة يتعامل مع الله وكأنه يخلق الأمور ويأمر بها بمحض الإرادة والقدرة فقط، ويتغافل عن صفة الحكمة. ولأجل ذلك، تصور أن الله يمكن أن يأمر بما هو شر محض، ويكون بذلك أمرًا أخلاقيًّا. والحقيقة أن ما اتصف الله به من كمال مطلق في الحكمة والعلم والقدرة والإرادة يمنع أن يأمر الله بما هو شر محض. ويعتقد المسلمون أن الله لا يأمر إلا بما هو خير ولا ينهى إلا عما هو شر.  

④ أن الشبهة مبنية على الخلط بين معنى الخلق ومعنى الأمر. فالله تعالى خلق كل شيء في الوجود، حسنَه وقبيحَه، فلا يخرج شيء في الوجود عن خلقه سبحانه. ولكنه لا يأمر إلا بما هو حسن ولا ينهى إلا عما هو قبيح. فالأمر التكليفي أضيق من الخلق، ودائرة الخلق تشمل ما أمر الله به وما لم يأمر به.  


ونتيجة لهذه المغالطات التصورية، ظهرت مغالطات في عرض متن الشبهة نفسه.  

⓶ مغالطات متن معضلة يوثيفرو:

① التصوير الزائف، وهو أن يصور المناظر المسألة التي وقع فيها الاختلاف بصورة غير الصورة التي هي عليها، ويطلب من المخالف له أن يناقشها بناءً على هذا التصوير.  

② الحصر المخادع، وهو أن يحصر المناظر الاحتمالات للإجابة عن السؤال في عدد معين، ثم يطلب من مناظره أن يختار منها احتمالًا، بينما يكون الجواب الصحيح في احتمال ثالث لم يذكره فيما حدده من احتمالات.

فهو يبني حجته على أن الله تعالى يمكن أن يفعل لمحض الإرادة من غير حكمة، أو أن معيار الحسن والقبح خارج عن خلق الله وقدرته.

وهذا الحصر للاحتمالات لا يصح إلا في حال أن يكون الفاعل غير متصف بالحكمة، فيفعل الأمور لمحض المشيئة فقط.

ولا يصح أيضًا إلا في حال أن تكون الأمور الموجودة في الواقع ثلاثة: الفاعل، ومعيار الحسن والقبح، والفعل المجرد، وكل واحد مستقل عن الآخر.  

وكل هذه الأمور غير ممكنة في حق الله تعالى، لأنه لا يفعل فعلًا بغير حكمة إلهية، ولأن معيار الحسن والقبح وكذلك الأفعال ليست أمورًا مستقلة عن الله حتى يقال: هل اختار الله الفعل الأخلاقي لكونه حسنًا أم لا؟.

فلا يوجد في التصور العقلي إلا فرض واحد فقط، وهو أن الله أمر بالأفعال الحسنة لأنه خلقها على هيئة حسنة، ولأن حكمته لا تأمر إلا بما هو حسن، ونهى عن الأفعال القبيحة لأنه هيأها على هذه الهيئة، وحكمته تقتضي ألا يأمر بما هو قبيح.  


❂ الدين فيه أمور غير أخلاقية:

وهذا الاعتراض قائم على المصادرة على المطلوب.  

لأن محل النزاع هو معيارية الأخلاق وثبوتها ووجودها، وأنت لم تستطع أن تقدم لي أي مذهب كامل يشمل هذه الجوانب الثلاثة، فبذلك يكون اعتراضك هذا عبثيًّا.  

حتى لو سلمنا بأنه يمكن إيجاد منظومة أخلاقية في الإلحاد، فلن تكون مبنية على أسس موضوعية، بل ذاتية أو نسبية. فاللاديني مثلًا أمامه خياران: إما أن يقول إن الأخلاق موضوعية، فيتناقض مع معتقده الرافض للأديان، أو يقول إنها ذاتية، وبالتالي يلزم منه عدة أمور، وهي:  

❶ أن الأخلاق نسبية تختلف باختلاف الذوات.  

❷ أنه لا يمكن استبشاع أي فعل أخلاقيًّا.  

❸ أنه ليس للعهود والمواثيق قيمة.  

❹ أننا لسنا بحاجة إلى تبرير الجرائم والإفساد في الأرض.  

❺ أن كل الإدانات الأخلاقية للمجرمين ليس لها معنى.  


❂ أخلاق الملحدين أفضل من أخلاق المسلمين لأنها نابعة من دافع داخلي وليس خوفًا من النار أو طلبًا للجنة: 

وهذا ادعاء قائم على مغالطة التوسل بالمرجعية.  

فالملحد ليس لديه دافع داخلي ولا خارجي للأخلاق أصلًا. وإن مارسها، فهذا لا يعني أن إلحاده متسق مع فعله، بل هو تناقض.

فكما يقول الدكتور المسيري إن الفرد العلماني أفضل من نموذجه، فأنا أقول إن الفرد الملحد بفطرته أفضل من نموذجه، لأنه مستحيل أن يعيش في حالة اللاأخلاقية التي يؤدي إليها مذهبه. فالمقارنة الصحيحة تكون بين الإلحاد والإسلام، وليست بين الملحد والمسلم.  

هذا فضلًا عن أن الأخلاق في الإسلام ليست نابعة فقط من فكرة الثواب والعقاب، بل هي نابعة من محبة الله ومحبة صفاته، وهي صفات الخير والكمال والعدل والكرم والرحمة، وكراهية الشر الذي هو أبعد ما يكون عن صفات الخالق. فجوهر الإسلام هو محبة الله المتصف بصفات الخير، والتقرب إليه بتزكية النفس بعمل الخير والبعد عن الشر. فتصوير المؤمن على أنه شرير محب للشر ولكن يمنعه من ذلك خوفه من العقاب الأخروي هو تصور في غاية السخافة.


وفي الختام نقول:

هذه التحليلات تكشف أن:

١. الاعتراضات الإلحادية على الأخلاق الدينية تنطلق من:

• تصورات مشوهة عن الإله (نموذج اليونان)

• فهم قاصر لعلاقة الحكمة بالأمر الإلهي

٢. بينما يقدم الإسلام:

• نسقاً أخلاقياً متكاملاً (فطرة + عقل + وحي)

• حلاً للمعضلات الفلسفية التاريخية

اقرأ أيضًا

الأخلاق بلا إله: كيف تتحول المذاهب المادية إلى فخاخ فلسفية؟ رابط المقال.



تعليقات