الماعت المصرية: تفكيك أسطورة الأخلاق الغربية العقلانية

الماعت المصرية: تفكيك أسطورة الأخلاق الغربية العقلانية

 

الماعت المصرية: تفكيك أسطورة الأخلاق الغربية العقلانية

الماعت المصرية: تفكيك أسطورة الأخلاق الغربية العقلانية 

لطالما ادعى الفكر الغربي احتكاره لمفهوم الأخلاق العقلانية المجردة، معتبراً أن "الواجب الكانطي" يمثل الذروة الفلسفية للفعل الأخلاقي المستقل عن الدين والمصلحة.

هذا الادعاء الذي تكرس في مناهج التعليم والدراسات الأكاديمية، ينهض على أسس هشة تتهاوى أمام البحث التاريخي الجاد.

فالحضارات الشرقية - وعلى رأسها المصرية القديمة - قد سبقت كانط بثلاثة آلاف عام في صياغة نظم أخلاقية متكاملة تقوم على العقل والشمولية الكونية.


في هذا المقال، سنسلط معول الشك على أربعة أعمدة رئيسية يقوم عليها هذا الادعاء الغربي:

  1. أصالة الأخلاق الكانطية.
  2. شمولية الأخلاق الغربية مقابل خصوصية الشرقية.
  3. عقلانية الغرب مقابل طقسية الشرق.
  4. إنكار التأثير الشرقي.

سنكشف من خلال نصوص مصرية قديمة ودراسات معاصرة كيف أن "الماعت" المصرية - كنظام أخلاقي كوني - قد سبقت كانط في الربط بين العقل والأخلاق، وكيف أن تعاليم بتاح حتب وأمينيموبي تضمنت مبادئ أخلاقية مجردة تشبه إلى حد مدهش فلسفة الواجب.

ليس هدفنا هنا هز مجرد السرد التاريخي، بل نحن نهدف إلى تفكيك مركزية الغرب في كتابة التاريخ الأخلاقي، وإثبات أن الشرق لم يقدم فقط "بذوراً" أولية للأخلاق، بل نظماً متكاملة كان لها تأثير مباشر وغير مباشر على الفكر الغربي نفسه.

كما حدث في مقالنا السابق وتفكيكنا لأسطورة المعجزة الفلسفية الغربية.

الأعمدة الأربعة للادعاء الغربي وتفنيدها:

ادعاء أصالة الأخلاق الكانطية:

يزعم الغرب أن الأخلاق العقلانية المجردة وُلدت مع كانط في القرن الثامن عشر، حين صاغ فكرة "الواجب المطلق" والقانون الأخلاقي المستقل عن الدين والمصلحة.

هذا الادعاء الذي يُدرَّس في الجامعات ويعتبر من المسلمات الفلسفية، يقوم على فكرة أن الأخلاق قبل كانط كانت إما دينية تعبدية أو نفعية براجماتية.

لكن هذا الزعم يتجاهل سهوًا أو عمدًا التراث الأخلاقي العريق للحضارات الشرقية، وخاصة المصرية القديمة، التي طورت نظاماً أخلاقياً متكاملاً قائماً على العقل وفكرة الكونية قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام من كانط.

ففي مصر القديمة، مثّل مفهوم "الماعت" نظاماً أخلاقياً شاملاً يحكم الكون والبشر معاً، فهو يجسد العدل والحقيقة والتناغم الكوني.

نجد في تعاليم بتاح حتب (2500 ق.م) ما يشبه القانون الأخلاقي الكانطي:

"كن عادلاً وصادقاً، ليس خوفاً من العقاب، بل لأن العدل هو النظام الطبيعي للكون."

كما أن فكرة "الواجب" تجاه المجتمع والآلهة كانت حاضرة بقوة في النصوص المصرية القديمة، مما ينقض فكرة أن كانط كان أول من صاغ الأخلاق العقلانية المجردة.

ادعاء شمولية الأخلاق الغربية مقابل خصوصية الشرقية:

يدّعي المؤرخون الغربيون أن الأخلاق في الحضارات الشرقية كانت محلية الطابع، مرتبطة بسياقات دينية وطقسية ضيقة، بينما تمتعت الأخلاق الغربية بطابع عالمي وإنساني.

وهذا الادعاء يتجاهل عمداً الطبيعة الكونية لنظم الأخلاق الشرقية القديمة، وخاصة المصرية منها.

فمفهوم "الماعت" لم يكن مجرد مجموعة من الوصايا الأخلاقية المحلية، بل كان نظاماً شاملاً يحكم الكون والبشرية جمعاء، ويجسد مبادئ العدل والتوازن الكوني التي تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية.

والأدلة الأثرية تثبت أن الماعت كانت نظاماً أخلاقياً كونياً، حيث نجد إلهة الماعت ممثلة في النقوش المصرية وهي تشارك في خلق العالم وتحكم سلوك الآلهة قبل البشر.

كما أن النصوص المصرية القديمة مثل "تعاليم أمينيموبي" (1300 ق.م) انتشرت عبر الشرق الأدنى القديم وأثرت في الأخلاق اليهودية، كما نجدها مذكورة في سفر الأمثال بالكتاب المقدس.

هذا الانتشار الواسع ينقض تماماً فكرة الخصوصية المحلية، ويثبت أن الأخلاق الشرقية كانت تمتلك رؤية كونية وإنسانية تسبق بكثير ما قدمه الغرب من نظريات أخلاقية.

ادعاء عقلانية الأخلاق الغربية مقابل طقسية الشرقية:

يصرّ الفكر الغربي على تصوير الأخلاق الشرقية القديمة على أنها مجرد طقوس وشعائر دينية تخلو من الأسس العقلانية، بينما يقدّم الأخلاق الغربية كنموذج للتفكير العقلي المجرد.

هذا التقسيم الثنائي الزائف يتجاهل حقيقة أن الحضارات الشرقية - وخاصة المصرية منها - طورت أنظمة أخلاقية قائمة على العقل والمنطق قبل آلاف السنين من ظهور الفلسفة اليونانية.

فالبرديات المصرية القديمة تقدم أدلة دامغة على عقلانية الفكر الأخلاقي الشرقي. فنحن نجد في "بردية إنيت" وصفاً مفصلاً للماعت كقانون عقلي يحكم الكون، حيث يظهر الفرعون وهو يطبق العدل بناءً على مبادئ عقلانية وليس مجرد طقوس دينية.

والفيلسوف المصري "خيتي" ذكر في تعاليمه أن "العقل هو نور الإله في الإنسان"، وأن الأخلاق تنبع من إدراك الحقائق الكونية. كما أن نظام التحنيط المتقن الذي استمر لثلاثة آلاف عام يدل على فهم عميق للعلوم التشريحية، مما ينفي فكرة أن المصريين كانوا يعتمدون فقط على الطقوس دون العقل. هذه الحقائق تثبت أن الشرق القديم قدّم فعلاً أخلاقاً عقلانية متطورة، وليس مجرد شعائر طقسية كما يدعي الغرب.

إغفال التأثير الشرقي على الأخلاق الغربية:

يزعم الخطاب الغربي السائد أن الفكر الأخلاقي الأوروبي نشأ وتطور بمعزل عن أي تأثيرات شرقية، في محاولة لقطع الصلة بين التراثين الشرقي والغربي.

هذا الادعاء يتناقض مع الأدلة التاريخية الدامغة التي تثبت انتقال الأفكار الأخلاقية الشرقية إلى أوروبا عبر قنوات متعددة. فالحضارة اليونانية - التي تعتبر المهد المفترض للأخلاق الغربية - كانت على اتصال وثيق بالشرق، حيث زار العديد من فلاسفتها مصر وبلاد الشام وتأثروا بعلومها وفلسفاتها. كما سبق تبيان ذلك في مقال تهافت المعجزة الغربية.

ونجد المؤرخ اليوناني هيرودوتس نفسه أشار في كتاباته إلى اقتباس المشرّع اليوناني صولون من القوانين المصرية. كما أن أفلاطون، خلال زيارته لمصر، تأثر بشكل واضح بفكرة "الملك الفيلسوف" التي تشبه إلى حد كبير مفهوم حارس "الماعت" المصري.

كما أن الاكتشافات الأثرية الحديثة كشفت عن وجود برديات يونانية تحتوي على ترجمات جزئية لتعاليم "أمينيموبي" المصرية، مما يؤكد انتقال هذه الأفكار الأخلاقية.

كل هذه الحقائق تنقض أسطورة الاستقلالية الغربية، وتثبت أن ما يسمى "الأخلاق الغربية" كان في جزء كبير منه امتداداً وتطويراً للتراث الأخلاقي الشرقي العريق.


ويكون التساؤل المطروح بعد العرض الموجز: هل يصح بعد هذا كله الحديث عن "أصالة" الأخلاق الكانطية أو بناء الغرب لعقلانية الأخلاق على غير مثال سابق؟.



اقرأ أيضًا

تهافت المعجزة الغربية: تفنيد الأسطورة اليونانية في نشأة الفلسفة رابط المقال.

تعليقات