التدين السوسيولوجي: من التوازن الأخلاقي إلى القشور الشكلانية

التدين السوسيولوجي: من التوازن الأخلاقي إلى القشور الشكلانية

 التدين الاجتماعي: من التوازن الأخلاقي إلى القشور الشكلانية


 التدين الاجتماعي: من التوازن الأخلاقي إلى القشور الشكلانية

التدين بين الجوهر والمظهر

في كتابه أخلاق ناصري، حاول نصير الدين الطوسي في القرن الثالث عشر تقديم رؤية متكاملة للأخلاق تجمع بين العبادات، المعاملات، والآداب العامة، مؤكدًا أن التدين الحقيقي هو توازن بين الروح والسلوك. رؤية دينية عقلانية حول التدين الحق، نحتاج لإعادة اقتباسها اليوم في عصرنا.
لكن سوف نتعرض لتلك الرؤية في مقال آخر منفصل، أما الآن
السؤال الأساسي الذي نطرحه هو: ماذا يحدث عندما يتحول التدين إلى مجرد مظاهر خارجية، تُستخدم لأغراض اجتماعية أو براجماتية؟.
في مجتمعاتنا اليوم، نرى أحيانًا تدينًا يُركز على "القشور" – العبادات الظاهرة – بينما يُهمل جوهر الأخلاق والمعاملات. بل قد نجد من يثور لأجل "حذاء مقلوب"، لكنه لا يهتم بانقلاب حال الشباب أو تفكك القيم. في هذا المقال، نستكشف ظاهرة التدين الاجتماعي، أسباب تحوله إلى شكلانية، وتأثير ذلك على المجتمع.

التدين الاجتماعي: التوازن المفقود

التدين الاجتماعي، أو السوسيولوجي، هو نمط التدين الذي يتشكل تحت تأثير البيئة الاجتماعية والثقافية. في أصله، يعكس التدين الحقيقي توازنًا بين العبادات (كالصلاة والصيام)، المعاملات (كالصدق والأمانة)، والأخلاق (كالرحمة والعدل). هذا التوازن هو ما دعا إليه جوهر الإسلام وقام بصيغته الفلاسفة المسلمون في نظرياتهم الفلسفية مثل الطوسي، الذي رأى أن الأخلاق هي أساس الحياة الاجتماعية المستقرة.
لكن مع مرور الزمن، وتحت ضغط التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، يمكن أن يتحول هذا التوازن إلى اختلال. في بعض المجتمعات، تُختزل العبادات إلى طقوس شكلية، بينما تُهمل المعاملات والأخلاق. على سبيل المثال، قد نجد شخصًا يحرص على أداء الصلوات في العلن، لكنه لا يتورع عن الغش في التجارة أو إهمال حقوق الآخرين. هذا التحول يُعرف أحيانًا بـ"الشكلانية الدينية"، حيث يصبح التدين أداة لإثبات الهوية الاجتماعية بدلاً من تعبير عن إيمان داخلي.

التدين البراجماتي: الدين كأداة.

أحد أخطر نتائج التدين الاجتماعي هو التدين البراجماتي، حيث يُستخدم الدين كوسيلة لتحقيق أهداف شخصية أو سياسية. نرى ذلك في الأفراد أو الجماعات التي تستحضر مقولات دينية عند الحاجة فقط، مثل استغلال الخطاب الديني لكسب تأييد اجتماعي أو لتبرير سلوكيات غير أخلاقية. المشكلة تتفاقم عندما تُؤخذ هذه المقولات خارج سياقها، فتُحوَّل إلى شعارات تخدم أغراضًا بعيدة عن روح الدين.
على سبيل المثال، قد يُستخدم قول ديني عن "العدل" للدفاع عن موقف سياسي، بينما يُتجاهل العدل في المعاملات اليومية.
هذا النوع من التدين لا يعكس التزامًا حقيقيًا بالقيم، بل هو استغلال للمظاهر الدينية لتحقيق مكاسب دنيوية. كما يُلاحظ عالم الاجتماع ماكس فيبر أن التدين الشكلاني يزدهر في المجتمعات التي تعاني من فقدان الثقة أو الأزمات الاقتصادية، حيث يصبح الدين ملاذًا لإثبات الهوية بدلاً من إصلاح الواقع.

العصر الرقمي وتأثيره على التدين.

في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح التدين الاجتماعي أكثر وضوحًا. منصات مثل فيسبوك، تويتر وإنستغرام تُعزز "التدين المرئي"، حيث ينشر الأفراد صورًا لأنفسهم في العبادات أو يشاركون اقتباسات دينية لكسب الإعجابات.
هذا لا يعني بالضرورة أن التدين غير صادق، لكنه قد يتحول إلى أداء اجتماعي يُركز على المظهر بدلاً من الجوهر.
وعلى سبيل المثال، قد يثير منشور عن "حذاء مقلوب" في مكان عبادة جدلًا واسعًا، بينما تمر قضايا أعمق مثل تفكك الأسر دون اهتمام مماثل.
كما إن التقنية أيضًا تُسهل انتشار التدين البراجماتي. في الفضاء الرقمي، يمكن للأفراد اختيار مقولات دينية تتماشى مع آرائهم الشخصية، دون الالتزام بسياقها الأصلي. هذا يخلق نوعًا من "التدين المخصص"، حيث يُشكَّل الدين وفقًا لاحتياجات الفرد بدلاً من أن يكون إطارًا شاملًا للحياة.
مثال ذلك من نجده يضع آيات الرفق واللين في التعامل وعدم إلحاق أي ضرر بالآخر في موضع الدفاع عن شخص معتد أو خارج عن القانون. مما يترتب عليه الإخلال بمقاصد الدين، وأن تفقد الثقة بالنص الدين -المستغل بصور خطأ- لدي الأجيال التالية أو حديثي العهد بالدين.

عودة إلى التوازن: دروس من الطوسي.

كيف يمكننا استعادة التدين المتوازن؟. نصير الدين الطوسي، في أخلاق ناصري، يقدم إجابة وافية ننقل منها هنا اختصارا على وعد بالتفصيل في مقال لاحق: الأخلاق هي العمود الفقري للتدين. لا يكفي أن نؤدي العبادات إذا لم تترجم إلى سلوكيات عادلة ورحيمة. التدين الحقيقي، وفقًا للطوسي، هو ذلك الذي يوازن بين الالتزام الروحي والمسؤولية الاجتماعية. هذا يعني أن الغضب من "حذاء مقلوب" يجب أن يكون أقل أهمية من الغضب من الظلم أو وتفكك الأسر.
على المستوى الاجتماعي، نحتاج إلى تعزيز التعليم الديني الذي يركز على الجوهر بدلاً من المظهر.
كما يجب أن نعيد الاعتبار للمعاملات والأخلاق كجزء لا يتجزأ من التدين، وكقيم عليا منفصلة عن مقولات المنفعة وقوالب المادية.
وأن نشجع الحوار حول القضايا الاجتماعية الكبرى بدلاً من التركيز على التفاصيل الشكلية.
وفي العصر الرقمي، على وجه الخصوص يمكن استخدام التقنية نفسها لنشر وعي أخلاقي، مثل مناقشة قضايا الشباب أو تعزيز قيم التضامن.

التدين بين الإصلاح والمحاكاة.

التدين الاجتماعي ظاهرة معقدة، تتأرجح بين التوازن الأخلاقي والشكلانية البراجماتية. وفي عالم تسيطر عليه المظاهر، يصبح من السهل أن نفقد جوهر التدين الذي دعا إليه جوهر الدين الإسلامي. لكن الأمل يبقى: من خلال التأمل والنقد، يمكننا إعادة بناء تدين يعكس القيم الحقيقية، لا مجرد قشورها.

اقرأ أيضًا

التدين البراجماتي: عندما يتحول الدين إلى درع واقِ بدلًا من ضمير حي رابط المقال.

تعليقات