الأخلاق بلا إله: كيف تتحول المذاهب المادية إلى فخاخ فلسفية؟

الأخلاق بلا إله: كيف تتحول المذاهب المادية إلى فخاخ فلسفية؟

 

الأخلاق بلا إله: كيف تتحول المذاهب المادية إلى فخاخ فلسفية؟

الأخلاق بلا إله: كيف تتحول المذاهب المادية إلى فخاخ فلسفية؟

البرهان الأخلاقي: معضلة الأخلاق بدون إله -تحليل فلسفي-

بعد أن أثبتنا في المقال الأول استحالة تبرير الأخلاق في الإلحاد، نناقش هنا أهم المحاولات الإلحادية لتأسيس الأخلاق، ونبيّن إخفاقاتها الفلسفية.


ما هي تبريرات المذاهب المختلفة للنزعة الأخلاقية الإنسانية؟. ما هو مصدر الأخلاق في المذاهب المختلفة؟. 


❂ الأخلاق قائمة على التعامل بالمثل:

هذا التعريف ليس جديدًا، فهو أحد تعريفات أفلاطون الفلسفية لقيمة العدل، وهو التعامل بالمثل: الخير للأصدقاء والشر للأعداء.

مشكلة هذا التبرير أنه قائم على فكرتين: الأولى افتراض سعي جميع البشر لتحقيق الخير والسعادة لأنفسهم ولغيرهم. والثانية الاستثمار في البشر، فأنت تفعل الخير ليُرد إليك، لا لأنه خير في ذاته. 
والمشكلة أن هذا التبرير يفترض بدون سبب واضح أن جميع البشر يسعون لتحقيق الخير وسعادة الغير، بينما يوجد أشخاص تجد سعادتها في إضرار الغير وأذيته.

فقد يكون شخص لا يشعر بالسعادة إلا من خلال السرقة، أو شخص يرى أن مصلحة البشر هي قتل فئة معينة من البشر، وهذا رأيه في السعادة والخير. فهل يكون حينئذ أخلاقيًّا؟. أبدًا.

هذا فضلًا عن أن هذا التبرير لم يوضح لماذا أشعر بالالتزام بأن أكون شخصًا أخلاقيًّا، بل بدأ من وجود الأخلاق أصلًا، فهو صادر عن المطلوب ولم يوضح لماذا توجد الأخلاق.  

وبعيدًا عن عدم تحديد هذا التبرير لكيفية تحديد ما هو أخلاقي أصلًا، فإنه أشار إلى أن الأخلاقي هو ما يحقق السعادة الشخصية لي، أي أن مصدرها شخصي. إذن، فمعياري غير ملزم للغير، لأن ما أراه أخلاقيًّا قد يكون عند غيري غير أخلاقي.  
لكن هناك من يقول إننا إن لم نلتزم بهذه القاعدة، سيتحول المجتمع إلى مجتمع عدواني. وفي الواقع، لست أفهم لماذا أهتم بالمجتمع أصلًا، سواء كان مجتمعًا متقدمًا أو يحارب نفسه؟. ما الذي يجعل المجتمع المتحاب أخلاقيًّا والمجتمع المتحارب غير أخلاقي؟. في الواقع، لا يوجد معيار يحدد ذلك أصلًا. وقد يطغى حاكم مجتمع ويقتل أفراد مجتمعه أو أفراد مجتمع مجاور بحجة الحفاظ على مجتمعهم، فهل جعل ذلك فعله أخلاقيًّا؟.

يقول أدولف هتلر:

"قد نكون غير إنسانيين، ولكن إذا أنقذنا ألمانيا، فإننا حققنا أفضل صالح للعالم. قد نكون ظالمين، ولكن إذا أنقذنا ألمانيا، فنحن قد رفعنا أعظم ظلم في العالم. قد نكون غير أخلاقيين، ولكن إذا أنقذنا شعبنا، فإننا فتحنا باب الأخلاقية."
فهنا هتلر يشك في أنه يفعل الظلم، ولو كان يفعل الظلم، فإن فعله للظلم مسوَّغ لأنه يريد رفع ظلم أكبر.  
ولو نظرنا إلى الموضوع من زاوية أخرى، نجد أن هذا التبرير يدعي رد الفعل بمثله.

فهل تسمح للحيوان أو النبات بأكلك كما تسمح لنفسك بأكل الحيوان والنبات؟. وهل في حجزك لشخص مريض بمرض معدٍ يوجب حجزك أنت أيضًا؟. وبذلك يكون التبرير قد فشل في توضيح الاستثنائية الإنسانية أيضًا، وفشل لوجود استثناءات في الحياة اليومية لهذه القاعدة.  
وذكر ذلك الفيلسوف إيمانويل كانط، فقال:

"لا يفكر الشخص بأن قاعدة لا تفعل بالآخرين ما لا تحب أن يُفعل بك يمكن أن تكون أساسًا أو مبدأ؛ لأنها مشتقة من ذلك المبدأ مع الكثير من الحدود، ولا يمكنها أن تكون قاعدة عامة؛ لأنها لا تحتوي أساس الواجبات تجاه النفس ولا واجبات حب الآخرين، والمجرم سيحتج على هذا الأساس ضد القاضي الذي يحاكمه."
إذن، التبرير الأول فشل في تحديد مصدر الأخلاق، وفشل في توضيح سبب الشعور بالالتزام الأخلاقي، وفشل في تحديد كيف نحدد ما هو أخلاقي، وفشل في توضيح سبب الاستثنائية الإنسانية. 


❂ الأخلاق قائمة على المنفعة: 

أصحاب هذا التبرير يرون أن الأخلاق ليس لها قيمة في ذاتها، وإنما قيمتها في مدى نفعها. فإن جلبت المنفعة فهي حسنة، وإن لم تفعل فهي قبيحة. وهذا التبرير سيضعنا أمام مشكلة النسبية واختلاف البشر وعدم تحديد معيار يُطبق على الجميع، بل جعل الأخلاق ذوقًا شخصيًّا غير ملزم للغير، قائمًا على تصورات وأفكار شخصية.

فهتلر -وفقا لهذا التبرير- كان قمة الأخلاق لوجود تصور شخصي عمل على تنفيذه لتحقيق منفعة ما. هذا فضلًا عن عدم توضيح الاستثنائية الإنسانية، فلماذا أبحث عن منفعة الإنسان فقط دون تحقيق منفعة فيروس كورونا مثلًا في أن يتطور ويتكاثر أكثر؟.


❂ الأخلاق نتاج تطور الإنسان:  

وهذا تبرير لأصحاب المنهج الدارويني في تفسير الأخلاق، وأنها مجرد تكيف للإنسان مع محيطه، مثل تكيف اليد والعين وغيرهما. وعلى الرغم من سهولة إثبات فشل هذا الادعاء، لكنني أحب مناقشة الأصول لا الفروع.

فيجب مناقشة وإثبات صحة التطور من الأساس، حتى نناقش بعدها الفرع وهو تطور الأخلاق. لذلك فالأفضل أن نرجع إلى سلسلة "مدخل لجوهر النقد العلمي لنظرية التطور".

ولكن من النقض الموجز للمذهب القائل بداروينية الأخلاق دون الدخول في تفاصيل، هو تبني أصحاب الأيديولوجيات الإجرامية فكرة داروين "الصراع من أجل البقاء". فكانت إلهامًا وتبريرًا علميًّا أتاح تقنين الصراعات الطبقية واضطهاد الضعفاء والعنصرية والاستعمار والاستغلال والقمع وغيرها من أشكال وحشية من السلوكيات، باعتبار الطبيعة ساحة قتال للمجتمعات البشرية.  
من الأمثلة الأشهر الإبادات الجماعية النازية.  
يقول ريتشارد ويكارت:

"في ذهن هتلر، كانت الداروينية تقدم التبرير الأخلاقي لعمليات التعقيم الجماعي والنقاء العرقي والمذابح الجماعية وغيرها من السياسات غير الأخلاقية وفق المعايير الإنسانية الطبيعية. وقد وفرت نظرية التطور الأهداف النهائية لهذه السياسات: التحسن البيولوجي للأنواع البشرية... نعم، لم تصنع الداروينية المذابح الجماعية، ولكن تفرعاتها من داروينية اجتماعية وتوجهات التحسين المستقبلي للعرق وفرت الأساس العلمي لهتلر وأتباعه لإقناع أنفسهم ومن تعاون معهم بأن أبشع الجرائم العالمية كانت بالحقيقة فضيلة أخلاقية مشكورة! وهكذا نجحت الداروينية أو تأويلاتها الطبيعية في قلب ميزان الأخلاق رأسًا على عقب."
كما أعلن هتلر نفسه في اجتماع حزب نورمبرغ سنة 1933م أن موضوعات الجنس الأعلى بنفسه جنس أقل، الحق ما نراه في الطبيعة هو الحق الوحيد الذي يمكن أن يُتصور. فيقول:

"الجنس الأعلى يُخضع الجنس الأدنى، وهذا حق نراه في الطبيعة."
ويدعم هذا الكلام المؤرخ روبرت هيكمان، حيث يصف هتلر ويقول:

"كان هتلر مؤمنًا للغاية بالتطور وداعيًا إليه. وبغض النظر عن عمق وتعقيدات هوسه، فإنه من المؤكد أن كتابه "كفاحي" وضع بوضوح عددًا من الأفكار الارتقائية، خصوصًا تلك التي تؤكد الصراع، والبقاء للأصلح، والإبادة للأضعف، وذلك لإنتاج مجتمع أفضل."
ونستطيع أيضًا أن نقرأ عن حدائق الحيوان البشرية التي كانت تضع بشرًا في الأقفاص إلى جانب حيوانات، على اعتبار أنهم "حلقات وسيطة أقل تطورًا".
فهل مبدأ مثل هذا يصلح ليكون تبريرًا للأخلاق وجودًا ومرجعية والتزامًا؟.


❂ الإجماع الأخلاقي:

الأخلاق هي ما يحدده المجتمع بالإجماع أنه أخلاقي وفقط. ومشكلة هذا التبرير، كما تقول الدكتورة نجلاء مصطفى - الحاصلة على دكتوراه في فلسفة الأخلاق - هي إعطاء المجتمع قدرات أكبر مما يمتلكها في الواقع.

فلا يخلو مجتمع من التعارض في وجهات النظر، فلا يوجد إجماع تام في الواقع. هذا فضلًا عن النسبية المتغيرة، فقد يُجمع مجتمع ما على محاربة وقتل مجتمع آخر للاستفادة من ثرواته، فهل جعل ذلك فعله أخلاقيًّا؟.


❂ العقل مصدر الأخلاق:  

والسؤال الواجب عرضه أولًا هو: ما هو العقل أصلًا؟.

العقل هو ملكة الشخص الفكرية والإدراكية، ويمكن اعتباره إحدى حواس الإنسان وأداته -المخ- مثل باقي الحواس من بصر أداته العين، ومن سمع أداته الأذن. ومثل باقي الحواس، من خصائصها أنها محدودة، فكذلك للعقل حدود.

ويجب توافر شروط فيه كي يكون سليمًا يقبل المعرفة، فمثلًا يجب أن يكون العقل سليمًا لا يوجد به أمراض (كالجنون أو التقيد بالعرف أو المحدودية)، ويجب أن يخلو من المعوقات الخارجية (كالجهل أو التسليم لأخبار مسبقة دون فحص).  
وكل ما سبق متغير من شخص لآخر، فالعقول ليست واحدة. إذن، لا يمكن إقامة تبرير لماهية الأخلاق بناءً على العقل -وحده-.


❂ الفطرة مصدر الأخلاق:

وهذا طرح اللادينيين، وهو القول بوجود إله وفطرة، ولكن لا نؤمن بدين معين. والإشكال في هذا الموضوع أن الفطرة هي ما تحدد النقيضين: الخير والشر. فالفطرة تحدد أن بر الآباء شيء أخلاقي وإيذاءهم غير أخلاقي.

لكن إلى أي حد هذه الطاعة؟، لا تحدد الفطرة ذلك. فهي لا تحدد هل حصول ضرر على الابن من أجل إسعاد والده شيء أخلاقي أم لا؟ هل أن يطلق ابن زوجته طاعة وبرًّا لأمه أخلاقي أم لا؟.

فاختصاص الفطرة هو تحديد الطرفين المتناقضين، وما بينهما تعجز عنه. وفي الواقع، إن حياة البشر ليست خيرًا مطلقًا وشرًّا مطلقًا فقط، بل بينهما مراحل تحتاج إلى تحديد ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي.  

وفي الختام نقول إن هذه التحليلات تثبت أن المحاولات الإلحادية لتأسيس الأخلاق تنتهي إما إلى:

- نسبية مطلقة (تفقد الأخلاق موضوعيتها)

- أو تناقض ذاتي (كما في داروينية الأخلاق)

- أو انهيار كامل للمعايير (حين تصبح المنفعة الشخصية معيارًا) 


اقرأ أيضًا

الإلحاد والأخلاق: هل يمكن تبرير القيم في عالم مادي؟ رابط المقال.

تعليقات