من النص إلى الرمز: تحوّل القداسة من الدين إلى أشخاص
في عالم يزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، يشهد الخطاب الديني تحولًا جذريًا في مصادر شرعيته ومرجعياته. لطالما كانت النصوص الدينية – القرآن الكريم والسنة النبوية – هي المحور الذي تدور حوله الاستنباطات الفقهية والاجتهادات الشرعية.
لكننا اليوم نلاحظ ظاهرة مثيرة للقلق: تحوّل مركز الثقل من النص ذاته إلى الأشخاص والمؤسسات التي تتحدث باسمه.
فلم يعد السؤال الجوهري في الحوارات الدينية هو ما الدليل؟، بل أصبح من قالها؟.
هذا التحول لم يحدث بين ليلة وضحاها، بل هو نتاج تراكمات تاريخية واجتماعية ومعرفية. فبينما كان علماء السلف يختلفون في المسائل الفرعية ثم يعودون جميعًا إلى النص كمرجعية عليا، نجد اليوم أن بعض الأصوات تتعامل مع آراء العلماء أو قرارات المؤسسات الدينية وكأنها نصوص مقدسة لا تقبل النقاش.
بل الأكثر إثارة للدهشة أننا نسمع بين الحين والآخر دعوات صريحة إلى إنهاء الخلاف وتوحيد الرأي في المسائل الاجتهادية، وكأن الدين لم يعد يحتمل تعدد القراءات.
المشكلة تكمن في أن هذه الظاهرة لا تقتصر على النخب الدينية فحسب، بل امتدت إلى عامة الناس. فكم من مرة سمعنا أحدهم يقول: كيف تجرؤ على مخالفة رأي العالم الفلاني؟، أو هيئة كذا أفتت بهذا، فلماذا تختلفون؟.
هذا النوع من الخطاب لا يعكس فقط تغيرًا في منهجية التعامل مع النصوص، بل يكشف عن أزمة أعمق في فهم طبيعة الدين ووظيفته.
في هذا المقال، سنحاول تتبع جذور هذه الظاهرة، وتحليل أسبابها، واستشراف آثارها الخطيرة على الفكر الديني والمجتمع معًا.
كما سنطرح بعض المقترحات العملية لإعادة التوازن إلى العلاقة بين النصوص وقرائها، بعيدًا عن وساطة الأشخاص والمؤسسات التي قد تحجب – عن قصد أو غير قصد – نور النص عن أعين الناس.
ويكون السؤال الأساسي المطروح: هل نحن أمام أزمة منهجية في فهم الدين؟ أم أن الأمر يتعلق بتحولات أعمق في بنية المجتمعات الإسلامية المعاصرة؟.
أولاً: ظاهرة تحويل المركزية - من النص إلى الرمز
لعل أبرز مظاهر الأزمة الفكرية المعاصرة في الخطاب الديني هي تلك النقلة النوعية التي حوّلت المرجعية من النصوص الشرعية إلى الأشخاص والمؤسسات.
هذه الظاهرة ليست مجرد تغير عابر في منهجية الاستدلال، بل تمثل انزياحاً خطيراً في بنية التفكير الديني ذاتها. فبينما كان العالم الشرعي التقليدي يقدّم نفسه كوسيط شارح بين النص والمتلقي، يقوم اليوم بدور مالك للنص ومتحدث رسمي باسم الدين.
هذا التحول يظهر جلياً في عدة مستويات:
- على مستوى الخطاب اليومي، حيث أصبحت العبارات مثل الشيخ فلان يقول أو مؤسسة كذا أقرت تحل محل قال الله تعالى أو ورد في السنة.
- على مستوى المنهجية، حيث تحولت عملية الاستنباط من قراءة النصوص إلى تتبع أقوال الرموز.
- على مستوى التلقي، حيث أصبح المتابعون يبحثون عن التغريدة أو الفتوى أكثر من بحثهم عن الدليل والنص الأصلي.
الجذور التاريخية لظاهرة تحويل المركزية - من النص إلى الرمز
اللافت للنظر أن هذه الظاهرة تجد جذورها في سياق تاريخي معقد. فمن ناحية، هناك التراث الشيعي الذي أعطى مكانة خاصة للأمام كوسيط ضروري بين المريد والحقيقة، بل لا حقيقة إلا قوله هو. ولعل هذا تسرب بعض الشيء إلى حتى المذاهب الغير شيعية. ومن ناحية أخرى، هناك التأثر بالأنظمة الكنسية الغربية التي تعطي سلطة مطلقة للمؤسسة الدينية في تفسير النصوص.
الأكثر إثارة للقلق أن هذه الظاهرة لم تعد مقتصرة على العامة، بل تسربت إلى النخب الدينية نفسها. فبعض العلماء اليوم لا يقدمون أنفسهم كمجتهدين يبحثون عن الحقيقة في النصوص، بل كأوصياء على الدين.
هذا التحول من دور العالم المجتهد الذي يطرح قوله على معيار الكتاب والسنة، وإن وافقهما أخذ به وإلا طرح بعيدًا، إلى الأمام الأعظم الذي نبرر الشرع ليتناسب مع آراؤه يمثل نقطة تحول خطيرة في تاريخ الفكر الإسلامي.
ثانياً: الأسباب في تحوّل المرجعية من النص إلى الرمز
لا يمكن فهم ظاهرة انتقال القداسة من النصوص إلى الرموز بمعزل عن التحولات الكبرى التي شهدها العالم الإسلامي في القرنين الأخيرين. فهذه الظاهرة تمثل في جوهرها استجابة مركبة لمجموعة من التحديات الفكرية والاجتماعية والسياسية التي واجهتها المجتمعات المسلمة في العصر الحديث.
- على المستوى المعرفي، نجد أن انحسار وضعف التكوين الشرعي لدى العامة قد خلق فراغاً كبيراً. هذا الفراغ سارعت المؤسسات الدينية وشخصيات الدعاة الجدد لملئه، عبر تقديم إجابات جاهزة ومبسطة للقضايا المعقدة.
لقد تحولت الفتوى من عملية استنباط معقدة إلى منتج استهلاكي يلبي حاجة الجمهور للوصول إلى إجابات فورية في عالم يتسم بتسارع وتيرة الحياة.
- أما على المستوى الاجتماعي، فقد أدت أزمة الثقة في المؤسسات الدينية التقليدية إلى ظهور ما يمكن تسميته بـسوق الفتاوى التنافسية. في هذا السوق، يسعى كل داعية أو مؤسسة لتعزيز مكانته عبر تقديم خطاب حاسم وقاطع، مما عزز ظاهرة التقديس الشخصي على حساب النص.
كما ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تعميق هذه الظاهرة، حيث تحول بعض الدعاة إلى نجوم يخضعون لمنطق الشعبية والترند بدلاً من منطق الدليل والبرهان.
- على الصعيد السياسي، عمل الاستعمار والصدمات الحضارية في تحويل المرجعية من النص إلى الرمز.
فالاستعمار الغربي وما تبعه من صدمات حضارية دور محوري في هذه الظاهرة، يمكن تتبعه عبر ثلاث مستويات رئيسية:
١. تفكيك البنى التقليدية وإفراغ النصوص من سلطتها:
- عملت الأنظمة الاستعمارية على تهميش المؤسسات التعليمية التقليدية (الزوايا، المساجد، المدارس الشرعية) التي كانت تحفظ التوازن بين النص والاجتهاد
- استُبدلت مناهج الاجتهاد المتكاملة بمناهج دفاعية تركز على الذود عن الإسلام ضد الشبهات، مما حوّل النصوص من مصادر للاستنباط إلى مجرد أدوات للرد على المستشرقين
٢. زرع ثقافة التبعية الفكرية:
- فرضت الإدارات الاستعمارية في أوقات استعمارها للدول نموذج الإسلام الرسمي عبر إنشاء مجالس الفتوى الرسمية التي تخضع لسلطة المستعمر والتي كانت تقوم بتوظيف شيوخ الحكومة لتقديم قراءات دينية تبرر سياسات المستعمر (مثل فتاوى تحريم الثورات ضد المستعمر)
هذه التحولات جاءت كرد فعل على صدمة المواجهة مع الحداثة الغربية، حيث تم التضحية بالحيوية الاجتهادية لصالح خطاب التماسك الهوياتي في مواجهة الغرب.
في المحصلة، يمكن القول إن هذه الظاهرة تمثل استجابة مركبة لأزمة الحداثة في العالم الإسلامي، حيث حاولت المجتمعات المسلمة التكيف مع التحديات الجديدة عبر آليات دفاعية تمزج بين التمسك بالهوية الدينية والاستجابة لمتطلبات العصر.
ثالثاً: الآثار العميقة لتحوّل القداسة من النص إلى الرموز
يشكل هذا التحول الجذري في المرجعية الدينية زلزالاً فكرياً تنعكس آثاره على مستويات متعددة من الوعي الديني والاجتماعي:
- على المستوى المعرفي، يؤدي هذا التحول إلى تآكل منهجية التعامل مع النصوص الشرعية. فبدلاً من ثقافة النظر في الدليل ووزن الحجج، نجد انتشاراً لظاهرة التلقي السلبي حيث يتحول المتابع من باحث عن الحقيقة إلى مجرد مستهلك للفتاوى.
هذا التحول يفرغ الدين من بعده الاجتهادي، ويحوله إلى مجموعة من الأوامر والنواهي الجاهزة. الأكثر خطورة أن هذا المنهج ينتج أمية دينية حتى بين النخب، حيث يصبح التركيز على من قال بدلاً من ما الدليل.
- على المستوى الاجتماعي، تخلق هذه الظاهرة بيئة خصبة للاستبداد الفكري. فتحويل الرموز الدينية إلى مراجع مطلقة يسهم في تكريس ظاهرة الوصاية الدينية، حيث تُختزل الحقائق الشرعية في أقوال أشخاص أو مؤسسات بعينها. كما يؤدي ذلك إلى تفكيك آليات المحاسبة المجتمعية، حيث يصبح نقد الرمز الديني بمثابة خروج عن الدين ذاته.
- أما على المستوى الحضاري، فإن هذه الآلية تقطع الصلة الحيوية بين النص والأمة. فبدلاً من أن تكون الأمة بأسرها حاملة لمشروع فهم النص - كما كان الحال في العصور الذهبية للاجتهاد - يصبح النص حكراً على فئة محدودة. هذا التحول يكرس التخلف الحضاري، حيث تُحل محل العقلانية الاجتهادية ثقافة التقليد الأعمى.
كما أنه يغذي ظاهرة التفرق المذهبي، حيث تتحول كل جماعة إلى عبادة رمزها الخاص، بدلاً من الانطلاق من النصوص المؤسسة المشتركة.
رابعاً: نحو استعادة التوازن: إحياء ثقافة النص وترميم العلاقة بالأصول
إن معالجة هذه الإشكالية التاريخية تتطلب مشروعاً متكاملاً يعيد بناء العلاقة بين المسلم والنص الشرعي، ويستند هذا المشروع إلى عدة ركائز أساسية:
١. إصلاح المنظومة التعليمية:
- تطوير مناهج تعليمية تعيد الاعتبار لـعلم أصول الفقه كمدخل لفهم النصوص
- التركيز على تدريس منهجية التعامل مع النصوص بدلاً من مجرد حفظ الآراء الفقهية
- إعادة إحياء حلقات القراءة الجماعية للنصوص في المساجد والجامعات
٢. إعادة تعريف من هم العلماء:
- تحديد الفروق الجوهرية بين العالم المجتهد، والناقل للقول، والقائل بالرأي.
- تشجيع الحوار النقدي بين العلماء والمثقفين
٣. مواجهة التحديات المعاصرة:
- تطوير أدوات فهم النصوص في ضوء المستجدات الحديثة
- إقامة جسور بين التراث الفقهي والعلوم الإنسانية الحديثة
- بناء منهجية متوازنة تربط بين الثابت والمتغير
هذا المشروع ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة حضارية لإخراج الأمة من مأزق التبعية الفكرية، وإعادة تأسيس علاقة حية مع النصوص الشرعية، علاقة تقوم على الفهم لا التلقين، وعلى الاجتهاد لا التقليد. إنه الطريق الوحيد لاستعادة الدور الحضاري للأمة، من خلال إحياء العقل الاجتهادي الذي يميز بين قداسة النص وبين نسبية الفهم البشري له.
في الختام لقد أوضح هذا التحليل أن تحويل المرجعية من النص إلى الرمز ليس مجرد ظاهرة عابرة، بل هو تحول جذري في بنية الوعي الديني المعاصر. إنه يعكس أزمة عميقة في علاقة الأمة بمصادر تشريعها، حيث تحولت النصوص من كونها محوراً للحوار والاجتهاد إلى مجرد شواهد تُستدعى لتأييد آراء مسبقة. هذه الإشكالية ليست دينية بحتة، بل هي جزء من أزمة حضارية أوسع تعاني منها الأمة في سعيها للتوازن بين الأصالة والمعاصرة.
إن إعادة الاعتبار للنص كمحور للتفكير الديني تتطلب أكثر من مجرد وعظ أو توجيه، بل تحتاج إلى مشروع متكامل.
ونختم حديثنا هذا بقولنا:
"إذا أصبحت كلمة 'الباحث الإسلامي' أعلى من كلمة 'الدليل'، فنحن لا نختلف عن من قدسوا الأحبار."
اقرأ أيضًا
تآليه الإنسان وأنسنة المقدس: بين التأويل والانحراف عن التشريع رابط المقال.