التدين البراجماتي: عندما يتحول الدين إلى درع واقِ بدلًا من ضمير حي
البراجماتية: الفلسفة التي تمجد النفعية.
البراجماتية (Pragmatism) مذهب فلسفي يعتبر "الفائدة العملية" معيارًا للحقيقة والأخلاق، بمعنى أن صحة الأفكار تُقاس بنتائجها الملموسة، لا بمطابقتها للمبادئ المجردة. عند تطبيق هذا المفهوم على الدين، يصبح التدين وسيلة لا غاية، أداةً لتحقيق مكاسب دنيوية (اجتماعية، سياسية، مادية)، لا سبيلًا للالتزام الروحي أو الأخلاقي.
التدين البراجماتي: حين يتحول الإيمان إلى درعٍ متحرك.
هذا النمط من التدين لا يرفض الدين جملةً، بل يختار منه ما يتوافق مع مصالحه، ويتجاهل ما يعيقها. نراه في:
- السياسي الذي يستشهد بالنصوص الدينية لتبرير قراراته، بينما ينتهك نفس المبادئ في الخفاء.
- الاجتماعي الذي يُظهر التزامًا صارمًا بالطقوس (كاللباس أو الصلاة)، لكنه يمارس التنمر أو الغش دون تأنيب ضمير.
- الثقافي الذي يُخضع تفسير النصوص الدينية لأهوائه، كمن يدعو للتسامح حين يكون في موقع الضعف، ويتبنى التطرف حين يعتلي السلطة.
لماذا ينتشر هذا النمط؟.
١. أزمة الهوية: في عصر العولمة، يبحث الأفراد عن هوية دينية "مرنة" تتناسب مع تناقضات الحياة الحديثة.
٢. الانفصال بين القيم والطقوس: تحوّل الدين إلى مظاهر خارجية (كاللحية أو الحجاب) دون ارتباط بجوهره الأخلاقي.
٣. تسييس الدين: استخدام الخطاب الديني كأداة للهيمنة أو كسب الشرعية، خاصة في المجتمعات ذات التركيبة المحافظة.
خطر الظاهرة: تفريغ الدين من مضمونه.
التدين البراجماتي لا يهدد الدين نفسه، لكنه يحوّله إلى "ماركة تجارية" تُستخدم حسب الحاجة. الأكثر إشكالية أن أتباع هذا النمط غالبًا ما يُنكرون تناقضهم، ويلوون النصوص لتبرير سلوكهم، مما يُضعف مصداقية الخطاب الديني ككل.
أمثلة على التدين البراجماتي: عندما يصبح الدين أداةً لا قيمة.
١. السياسي المزوّق:
رجل يرفع شعارات دينية حماسية في الحملات الانتخابية، يتحدث عن "العدل الإسلامي" و"تحكيم الشريعة"، لكنه أول من يسرق المال العام ويقمع المعارضين. إذا وُجهت له انتقادات، يتحول فجأة إلى "داعية تسامح" ويستشهد بآيات العفو، ليس حباً في القيم الدينية، بل لأن العفو يصبح مفيداً له في هذه اللحظة!.
٢. رجل الأعمال المنافق:
تاجر يحرص على صلاة الجمعة ويتبارى في التبرع للمساجد، لكنه لا يتردد في غش العملاء وبيع السلع الفاسدة. إذا أُثيرت ضده شكوى، يهرع إلى الحديث عن "أهمية النية" و"أن الله يحاسب النيات"، وكأن الدين مجرد غطاء يبرر به أفعاله، لا ضميراً يراقبه من الداخل.
٣. المؤثر "المتدين حسب الجمهور":
مشهور على السوشيال ميديا يغيّر خطابه الديني حسب تفاعل المتابعين. إذا لاحظ أن جمهوره يميل إلى الخطاب المتشدد، يبدأ في الهجوم على "التحرر" و"الانحلال"، وإذا شعر أن التيار العام يتجه نحو الاعتدال، يصبح فجأة داعية "وسطية" و"سماحة". الدين هنا ليس مبدأً ثابتاً، بل سلعة تُعدّل حسب ذوق الزبائن!
٤. الموظف الانتهازي:
موظف يرفض مصافحة زميلته بحجة "الالتزام الديني"، لكنه لا يتردد في تزوير التقارير أو سرقة وقت العمل. إذا وُبّخ على تقصيره، يسترجع فوراً حديثاً نبوياً عن "الرفق بالعباد"، ليس لأنه يؤمن به حقاً، بل لأنه يعرف أن هذه الورقة الرابحة ستسكِت منتقديه.
النمط المشترك في كل هذه الأمثلة:
- الانتقائية: اختيار ما يناسب الموقف من الدين وترك ما لا يناسب.
- التبرير الذاتي: تحوير النصوص الدينية لتتناسب مع الأهواء.
- الازدواجية: الفصل الكامل بين المظهر الديني والسلوك الأخلاقي.
هؤلاء لا يرفضون الدين كلياً، بل يحوّلونه إلى "سوبر ماركت" يأخذون منه ما يعجبهم، ويتركون الباقي على الرف!.
التحليل النفسي والاجتماعي للتدين البراجماتي: جذور الازدواجية.
١. الجانب النفسي: آليات الدفاع عن الذات.
يعتمد المتدينون براغماتياً على مجموعة من الحيل النفسية لتبرير تناقضهم:
- التبرير العقلاني (Rationalization): حيث يحوّل الفرد تناقضه إلى حجة "مقنعة"، كالقول: "الله غفور رحيم" بعد ارتكاب خطأ ما، دون محاولة حقيقية للإصلاح.
- الانفصام المعرفي (Cognitive Dissonance): يعيش الشخص في صراع داخلي بين قناعاته الدينية وسلوكه العملي، فيلجأ لإضعاف المعيار الديني بدل تغيير السلوك.
- الانزياح اللاإرادي (Projection): حيث يوجه الشخص انتقاداته لأخطاء الآخرين الدينية ليشتت الانتباه عن أخطائه هو.
٢. العوامل الاجتماعية: صناعة التناقض الجماعي.
تخلق المجتمعات بيئة خصبة لهذا النمط عبر:
- التديّن الشكلي السائد: عندما تتحول الممارسات الدينية إلى عادات اجتماعية أكثر منها التزاماً روحياً. فالصلاة مثلاً تصبح "واجباً اجتماعياً" يُمارس خوفاً من نظرة الآخرين، لا خوفاً من الله.
- الازدواجية المؤسسية: عندما تتبنى المؤسسات الدينية والسياسية خطاباً دينياً انتقائياً. فيصبح المواطن العادي ضحية لهذا التناقض المؤسسي.
- الاستقطاب الديني-الحداثي: في ظل الصراع بين تيارات التدين التقليدي والتحرري، يلجأ الكثيرون لـمساومة نفسية، فيختارون من الدين ما لا يتعارض مع راحتهم الدنيوية.
٣. الأزمة الأخلاقية الكامنة.
هذه الظاهرة تعكس أزمة القيم الحديثة حيث:
- تحول الدين من مرجعية أخلاقية إلى هوية اجتماعية قابلة للتشكيل حسب الحاجة.
- أصبحت المنفعة الشخصية هي المقياس الحقيقي للالتزام، بدل القناعة الداخلية.
- ساهمت وسائل التواصل في تعميم هذه الظاهرة، حيث يتحول التدين إلى "براندنج شخصي" يعتمد على الصورة أكثر من الجوهر.
لماذا يصعب الاعتراف بهذا التناقض؟.
- الخوف من فقدان الانتماء: الاعتراف بالتناقض يعني الخروج من دائرة "المتدينين المقبولين اجتماعياً".
- الراحة النفسية: من الأسهل تعديل المبادئ الدينية لتتناسب مع السلوك بدل تعديل السلوك ليتناسب مع المبادئ.
- غياب المحاسبة المجتمعية: عندما يكافأ المظهر الديني (بغض النظر عن الأخلاق)، يصبح التناقض استراتيجية ناجحة.
خلاصة التحليل:
التدين البراجماتي ليس مجرد نفاق، بل هو آلية تكيف معقدة مع عالم فقدت فيه المعايير الدينية وضوحها، بينما زادت ضغوط الحياة الحديثة. إنه محاولة - وإن كانت مشوهة - للتوفيق بين الإيمان والواقع، لكنها تتحول إلى إيمان مشلول يفقد قدرته على التغيير الأخلاقي. السؤال الأكبر: هل هذه الظاهرة مرحلة مؤقتة في تحول المجتمعات الدينية، أم أنها بداية تفكك أكبر للقيم؟.
التدين البراجماتي: نهاية الإيمان أم بداية إيمان جديد؟.
في نهاية هذا المسار، نجد أنفسنا أمام مفارقة وجودية عميقة: هل التدين البراجماتي تشويه للدين، أم هو صيغة تطورية لبقائه في عصر الحداثة؟.
المأزق الأخلاقي:
لقد حوّل هذا النمط الدين من "قوة تحررية" تطلق الإنسان من عبودية ذاته، إلى "أداة استعباد" جديدة تكرس ازدواجية الإنسان الحديث. إنه يجعل من المقدس خادماً للدنيوي، بدل أن يكون الدنيوي جسراً للمقدس.
ومضة أمل:
لكن قد نرى في هذه الظاهرة إشارة صحوة أيضاً:
- فهي تفضح زيف التدين الشكلي.
- تكشف الحاجة الملحة لإعادة تعريف العلاقة بين الدين والحياة.
- تطرح أسئلة جوهرية عن معنى الالتزام الحقيقي.
الدعوة الأخيرة:
ربما يكون الحل في العودة إلى الجوهر الأخلاقي للدين، بعيداً عن:
- أدلجة النصوص
- استغلال الطقوس
- توظيف المقدسات
ختاماً: التاريخ الديني يعلمنا أن كل انحطاط يحمل في طياته بذور نهضة. السؤال ليس هل سنتجاوز أزمة التدين البراجماتي، بل كيف سنفعل ذلك: هل بالعودة إلى الماضي، أم باختراع مستقبل ديني أكثر إنسانية وأصالة؟
"الدين ليس حقيبة بها تصريح عدم تعرض نرفعها وقت الخوف، بل هو النور الذي نحمله لنسير به في ظلمات الحياة .. حتى عندما لا يرى أحدٌ نورنا."
اقرأ أيضًا
الاتصال الصوفي: بين وحدة الوجود وتجلي واجب الوجود رابط المقال.