البرهان الأخلاقي: رؤية شاملة للأسس الفلسفية للأخلاق في الإسلام

البرهان الأخلاقي: رؤية شاملة للأسس الفلسفية للأخلاق في الإسلام

 

البرهان الأخلاقي: رؤية شاملة للأسس الفلسفية للأخلاق في الإسلام

البرهان الأخلاقي: رؤية شاملة للأسس الفلسفية للأخلاق في الإسلام

المقدمة

تهدف هذه الورقة إلى تحليل إشكالية تبرير الأخلاق في الإطار المادي للإلحاد، عبر تفكيك المذاهب الفلسفية الحديثة (كالداروينية، النفعية)، ومقارنتها بالنسق الإسلامي القائم على الوحي والفطرة. وتخلص إلى أن الإلحاد يعجز عن تأسيس أخلاق موضوعية ملزمة، بينما يقدم الإسلام حلاً شاملاً عبر تكامل العقل والنقل.

المبحث الأول:

الإلحاد والأخلاق: هل يمكن تبرير القيم في عالم مادي؟

قبل أن نبدأ يجب الأشارة إلى إني لا أدّعي بأي شكل من الأشكال عدم أخلاقية غير المؤمنين، ولا أن كل المؤمنين أخلاقيون، وذلك لأن الإطار العام للأخلاق، والذي يقع بين طرف الخير وطرف الشر، مغروس في فطرة ونفس كل إنسان، كما قال تعالى في سورة الشمس: "ونفسٍ وما سوَّاها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكَّاها * وقد خاب من دسَّاها".

ومن المعلوم أن هذه الفطرة لا تعني حتمية التصرف بمقتضاها.  

فلابد أن نميّز بين الأخلاق من حيث وجودها، ومن حيث مرجعيتها، ومن حيث وجوبها.

فالمسلم يقر بالأخلاق وجودًا، ومرجعيتها هي الله عز وجل، سواء في غرسها إجمالًا في الفطرة أو في تقريرها تفصيلًا في الشرع، ويرى أنها واجبة الاتباع من منطلق الشرع.

أما الملحد فقد يكون شخصًا أخلاقيًّا، لكنني أزعم أنه لا يستطيع أن يبرر سبب كونه أخلاقيًّا، وأنا في هذه الورقة البحثية وعلى ايجازها مهمتي إثبات زعمي هذا.

❂ تعريف الأخلاق:

ما المقصود بالأخلاق؟. الأخلاق في اللغة هي جمع خُلُق [بضم الخاء وضم وتسكين اللام]، والخُلُق في اللغة يُستخدم مع عدد من المعاني، فقد يشير إلى الشخص حسن الهيئة، وهذا يشير إلى الشكل الخارجي للأشخاص، أو قد يُقصد بها حُسن الطبع، وهو ما يشير إلى الطبع الداخلي.  

وكلمة الخُلُق تشير إلى الأخلاق كلها، الطيب منها والقبيح، المحمود منها والمذموم؛ فالصدق خُلُق والكذب أيضًا خُلُق، لكن الصدق خُلُق طيب والكذب خُلُق مذموم.  

أما الأخلاق اصطلاحًا فتعريفاتها متعددة، فمنها على سبيل المثال أنها "غرائز كامنة تظهر باختيار صاحبها وتقهر بالاضطرار".

❂ الأخلاق الموضوعية:

ما المقصود بالأخلاق الموضوعية؟. المقصود بالأخلاق الموضوعية أننا نحكم على الأخلاق ببُعد يتجاوز الأعراف والمجتمع والذات الشخصية.

فهي الطبع الذي يُلزم صاحبه بالفعل أو عدم الفعل مهما كان الشخص أو المجتمع، وإن عارضت رغباته.

فالظلم قبيح وإن أقر المجتمع كله بخلاف ذلك، فالأخلاق ملزمة بذاتها. 

يقول في صدد ذلك حمزة تزورتزس:

"وبطريقة أخرى، الحقائق الأخلاقية الموضوعية تتجاوز الذاتية البشرية. على سبيل المثال، حقيقة أن قتل طفل في الخامسة من العمر سيكون دائمًا خطأ أخلاقيًّا، حتى لو اتفق العالم كله على أن قتل طفل صغير أمر صحيح من الناحية الأخلاقية."


❂ شروط الأخلاق:  

كيف أكون شخصًا أخلاقيًّا؟. ما المطلوب مني أن أتصف به؟. من التعريف يمكننا أن نعرف أن المطلوب منك أن تكون متصفًا بما يلي:  

⓵ الإرادة الحرة:

بما أننا عرَّفنا الأخلاق على أنها أفعال، فالأفعال لا تكون إلا بإرادة، وأهمية الإرادة في الأفعال أنها الرابط بين الفاعل وأثر فعله، فإذا كان الفاعل مريدًا لفعله، أصبح الفاعل مسؤولًا عن أثر فعله أيضًا، وإذا كان الفاعل غير مريد، أصبح الأثر غير مقصود.

يقول الفيلسوف الأمريكي روبرت كاين:

"الإرادة الحرة هي: النشوء غير المشتق أو الملكية الفردية الضرورية لعدد من الأمور التي يبتغيها البشر بشكل عام أو تستحق الطلب، ومن المرشحين لهذه الأمور الجيدة المسؤولية الأخلاقية."


⓶ الاستثنائية الإنسانية:  

من الواضح أننا لا نطالب الحيوانات بمعايير أخلاقية، فالأرنب مثلًا لا يعترض على أن الأقوى منه يأكله، بل هو يرى أن هذه هي الحياة ولا يقول إن هذا غير أخلاقي، إنما يسعي فقط للتكيف مع هذا الوضع وفق المتاح من قدرات وإمكانيات.

حتى إن عبارة "قانون الغاب" تشير إلى تحول المجتمع الإنساني إلى مجتمع حيواني مبني على القوة لا على القيم المطلقة، وهذا يعني أننا كبشر نرفع من مكانتنا فوق باقي الحيوانات، ونرى أنفسنا مطالبين بمعيار أخلاقي لتصرفاتنا، وهذه الفكرة تُسمى "الاستثنائية البشرية Human Exceptionalism".  

يقول الدكتور جريج هنريكيس معرّفًا الاستثنائية البشرية:

"الفكرة القائمة على أن البشر فريدون وكائنات مختلفة يجب عليها أن تضع أسسًا قيمية أخلاقية تتناسب مع تلك الفرادة."


❂ العلاقة بين العدمية والإلحاد:

المقصود بالعدمية هو أن أفعالنا ووجودنا لا قيمة حقيقية له، يقول الفيلسوف الأمريكي ألن برات:  

"العدمية الوجودية هي المفهوم القائل بأن الحياة ليس لها أي معنى أو قيمة ذاتية، وهذا بلا شك هو المفهوم الأكثر انتشارًا للكلمة اليوم."

حسنًا، ما علاقة ذلك بالإلحاد؟. في الواقع، إن الالتزام بالمادية يعني بالضرورة أن أي سؤال في الطبيعة تجيب عليه العمليات الطبيعية، ونحن نعلم أن الطبيعة ليست شيئًا واعيًا، بل هي مجرد أجسام مادية تتفاعل مع بعضها لتنتج التأثيرات التي نشاهدها، وبالتالي فإن الطبيعة نفسها فاقدة لأي قيمة، وهذا الأمر واضح عند الملحدين مثل دوكنز، حيث يقول:

"في كون من القوى الفيزيائية العمياء والنسخ الجينية، بعض الناس سوف يتأذون وآخرون سوف يكونون محظوظين، ولن تجد أي نسق أو سبب في ذلك، ولا عدالة. الكون كما نرصده فيه المواصفات التي يجب أن نتوقعها، ففي القاع لا يوجد تصميم أو هدف، لا يوجد شر أو خير، لا يوجد غير اللامبالاة العمياء."

❂ الآن، بعد هذه المقدمة وتعريفنا للأخلاق وشروطها، هل ينطبق أي منها على الملحد؟. في الواقع، لا.  

⓵ انتفاء الإرادة الحرة:  

يطرح المنظور المادي للإلحاد إشكالية عميقة في مفهوم الإرادة الحرة. إذا كنا -كما يرى الماديون- مجرد مجموعة معقدة من الجزيئات تخضع لقوانين الفيزياء، وبذلك يكون الإنسان مساويًا للحيوان، مساويًا للحجر والشجر، مساويًا للأجرام السماوية، مساويًا للحركة العمياء المعدومة الإرادة. فكيف يمكننا الحديث عن اختيار حقيقي أو مسؤولية أخلاقية؟.

هذا التساؤل يحيلنا إلى مفارقة صعبة: إما أن نؤمن بالإرادة الحرة (مما يتطلب وجود عنصر غير مادي)، أو نعترف بأن أحكامنا الأخلاقية مجرد وهم!.  

يقول الملحد الفيزيائي ستيفن هوكينغ:  

"على الرغم من إحساسنا بالقدرة على اختيار ما نفعله، إلا أن وعينا بالأساس الجزيئي للبيولوجيا قد أوضح أن العمليات البيولوجية تكون محكومة بقوانين الفيزياء والكيمياء، ولذلك فهي محددة تمامًا، مثل مدارات الكواكب. وتدعم تجارب علم الأعصاب الحديثة الرؤية القائلة: إن دماغنا المادي يخضع لقوانين العلم المعروفة التي تحدد أفعالنا، وليس لبعض القوى الموجودة خارج تلك القوانين. فعلى سبيل المثال، عند دراسة المرضى الذين أجريت لهم جراحة في المخ أثناء اليقظة، وجد أنه بإثارة بعض الأماكن المعينة في المخ كهربائيًّا يمكن للمرء أن يولد لدى المريض رغبة في تحريك اليد أو الذراع أو القدم أو تحريك الشفاه والتحدث. من الصعب تخيل كيف تعمل الإرادة الحرة إذا كان سلوكنا يحدده القانون المادي، ولذلك يبدو أننا لسنا أكثر من آلات بيولوجية وأن الإرادة الحرة مجرد وهم."


⓶ انتفاء الاستثنائية الإنسانية:

مما سبق يتضح أن الملحد بقوله بالمادية فإنه بذلك ينفي أن له ما يميزه عن غيره من الكائنات. فبالإضافة إلى تبنيه الفكر التطوري القائل بتطور الإنسان عن سلف مشترك مع الشمبانزي، فإنه بذلك يقول إنه مجرد حيوان متطور. ونحن كبشر لا نطالب الحيوانات أن تكون أخلاقية، فبالتالي لا معنى لأن نطالب أحد الحيوانات -المتطورة- أن يكون أخلاقيًّا. 


في الختام وبعد هذا التحليل، يبدو أن الإلحاد المادي يواجه تحدياً جوهرياً في تبرير الأسس الفلسفية للأخلاق. لكن هذا لا يعني نهاية النقاش، بل لنا لقاء ولقائات.


المبحث الثاني:

الأخلاق بلا إله: كيف تتحول المذاهب المادية إلى فخاخ فلسفية؟

بعد أن أثبتنا في المبحث الأول استحالة تبرير الأخلاق في الإلحاد، نناقش هنا أهم المحاولات الإلحادية لتأسيس الأخلاق، ونبيّن إخفاقاتها الفلسفية.


ما هي تبريرات المذاهب المختلفة للنزعة الأخلاقية الإنسانية؟. ما هو مصدر الأخلاق في المذاهب المختلفة؟. 

❂ الأخلاق قائمة على التعامل بالمثل:

هذا التعريف ليس جديدًا، فهو أحد تعريفات أفلاطون الفلسفية لقيمة العدل، وهو التعامل بالمثل: الخير للأصدقاء والشر للأعداء.

مشكلة هذا التبرير أنه قائم على فكرتين: الأولى افتراض سعي جميع البشر لتحقيق الخير والسعادة لأنفسهم ولغيرهم. والثانية الاستثمار في البشر، فأنت تفعل الخير ليُرد إليك، لا لأنه خير في ذاته. 
والمشكلة أن هذا التبرير يفترض بدون سبب واضح أن جميع البشر يسعون لتحقيق الخير وسعادة الغير، بينما يوجد أشخاص تجد سعادتها في إضرار الغير وأذيته.

فقد يكون شخص لا يشعر بالسعادة إلا من خلال السرقة، أو شخص يرى أن مصلحة البشر هي قتل فئة معينة من البشر، وهذا رأيه في السعادة والخير. فهل يكون حينئذ أخلاقيًّا؟. أبدًا.

هذا فضلًا عن أن هذا التبرير لم يوضح لماذا أشعر بالالتزام بأن أكون شخصًا أخلاقيًّا، بل بدأ من وجود الأخلاق أصلًا، فهو صادر عن المطلوب ولم يوضح لماذا توجد الأخلاق.  

وبعيدًا عن عدم تحديد هذا التبرير لكيفية تحديد ما هو أخلاقي أصلًا، فإنه أشار إلى أن الأخلاقي هو ما يحقق السعادة الشخصية لي، أي أن مصدرها شخصي. إذن، فمعياري غير ملزم للغير، لأن ما أراه أخلاقيًّا قد يكون عند غيري غير أخلاقي.  
لكن هناك من يقول إننا إن لم نلتزم بهذه القاعدة، سيتحول المجتمع إلى مجتمع عدواني. وفي الواقع، لست أفهم لماذا أهتم بالمجتمع أصلًا، سواء كان مجتمعًا متقدمًا أو يحارب نفسه؟. ما الذي يجعل المجتمع المتحاب أخلاقيًّا والمجتمع المتحارب غير أخلاقي؟. في الواقع، لا يوجد معيار يحدد ذلك أصلًا. وقد يطغى حاكم مجتمع ويقتل أفراد مجتمعه أو أفراد مجتمع مجاور بحجة الحفاظ على مجتمعهم، فهل جعل ذلك فعله أخلاقيًّا؟.

يقول أدولف هتلر:

"قد نكون غير إنسانيين، ولكن إذا أنقذنا ألمانيا، فإننا حققنا أفضل صالح للعالم. قد نكون ظالمين، ولكن إذا أنقذنا ألمانيا، فنحن قد رفعنا أعظم ظلم في العالم. قد نكون غير أخلاقيين، ولكن إذا أنقذنا شعبنا، فإننا فتحنا باب الأخلاقية."
فهنا هتلر يشك في أنه يفعل الظلم، ولو كان يفعل الظلم، فإن فعله للظلم مسوَّغ لأنه يريد رفع ظلم أكبر.  
ولو نظرنا إلى الموضوع من زاوية أخرى، نجد أن هذا التبرير يدعي رد الفعل بمثله.

فهل تسمح للحيوان أو النبات بأكلك كما تسمح لنفسك بأكل الحيوان والنبات؟. وهل في حجزك لشخص مريض بمرض معدٍ يوجب حجزك أنت أيضًا؟. وبذلك يكون التبرير قد فشل في توضيح الاستثنائية الإنسانية أيضًا، وفشل لوجود استثناءات في الحياة اليومية لهذه القاعدة.  
وذكر ذلك الفيلسوف إيمانويل كانط، فقال:

"لا يفكر الشخص بأن قاعدة لا تفعل بالآخرين ما لا تحب أن يُفعل بك يمكن أن تكون أساسًا أو مبدأ؛ لأنها مشتقة من ذلك المبدأ مع الكثير من الحدود، ولا يمكنها أن تكون قاعدة عامة؛ لأنها لا تحتوي أساس الواجبات تجاه النفس ولا واجبات حب الآخرين، والمجرم سيحتج على هذا الأساس ضد القاضي الذي يحاكمه."
إذن، التبرير الأول فشل في تحديد مصدر الأخلاق، وفشل في توضيح سبب الشعور بالالتزام الأخلاقي، وفشل في تحديد كيف نحدد ما هو أخلاقي، وفشل في توضيح سبب الاستثنائية الإنسانية. 

❂ الأخلاق قائمة على المنفعة: 

أصحاب هذا التبرير يرون أن الأخلاق ليس لها قيمة في ذاتها، وإنما قيمتها في مدى نفعها. فإن جلبت المنفعة فهي حسنة، وإن لم تفعل فهي قبيحة. وهذا التبرير سيضعنا أمام مشكلة النسبية واختلاف البشر وعدم تحديد معيار يُطبق على الجميع، بل جعل الأخلاق ذوقًا شخصيًّا غير ملزم للغير، قائمًا على تصورات وأفكار شخصية.

فهتلر -وفقا لهذا التبرير- كان قمة الأخلاق لوجود تصور شخصي عمل على تنفيذه لتحقيق منفعة ما. هذا فضلًا عن عدم توضيح الاستثنائية الإنسانية، فلماذا أبحث عن منفعة الإنسان فقط دون تحقيق منفعة فيروس كورونا مثلًا في أن يتطور ويتكاثر أكثر؟.

❂ الأخلاق نتاج تطور الإنسان:  

وهذا تبرير لأصحاب المنهج الدارويني في تفسير الأخلاق، وأنها مجرد تكيف للإنسان مع محيطه، مثل تكيف اليد والعين وغيرهما. وعلى الرغم من سهولة إثبات فشل هذا الادعاء، لكنني أحب مناقشة الأصول لا الفروع.

فيجب مناقشة وإثبات صحة التطور من الأساس، حتى نناقش بعدها الفرع وهو تطور الأخلاق. لذلك فالأفضل أن نرجع إلى سلسلة "مدخل لجوهر النقد العلمي لنظرية التطور".

ولكن من النقض الموجز للمذهب القائل بداروينية الأخلاق دون الدخول في تفاصيل، هو تبني أصحاب الأيديولوجيات الإجرامية فكرة داروين "الصراع من أجل البقاء". فكانت إلهامًا وتبريرًا علميًّا أتاح تقنين الصراعات الطبقية واضطهاد الضعفاء والعنصرية والاستعمار والاستغلال والقمع وغيرها من أشكال وحشية من السلوكيات، باعتبار الطبيعة ساحة قتال للمجتمعات البشرية.  
من الأمثلة الأشهر الإبادات الجماعية النازية.  
يقول ريتشارد ويكارت:

"في ذهن هتلر، كانت الداروينية تقدم التبرير الأخلاقي لعمليات التعقيم الجماعي والنقاء العرقي والمذابح الجماعية وغيرها من السياسات غير الأخلاقية وفق المعايير الإنسانية الطبيعية. وقد وفرت نظرية التطور الأهداف النهائية لهذه السياسات: التحسن البيولوجي للأنواع البشرية... نعم، لم تصنع الداروينية المذابح الجماعية، ولكن تفرعاتها من داروينية اجتماعية وتوجهات التحسين المستقبلي للعرق وفرت الأساس العلمي لهتلر وأتباعه لإقناع أنفسهم ومن تعاون معهم بأن أبشع الجرائم العالمية كانت بالحقيقة فضيلة أخلاقية مشكورة! وهكذا نجحت الداروينية أو تأويلاتها الطبيعية في قلب ميزان الأخلاق رأسًا على عقب."
كما أعلن هتلر نفسه في اجتماع حزب نورمبرغ سنة 1933م أن موضوعات الجنس الأعلى بنفسه جنس أقل، الحق ما نراه في الطبيعة هو الحق الوحيد الذي يمكن أن يُتصور. فيقول:

"الجنس الأعلى يُخضع الجنس الأدنى، وهذا حق نراه في الطبيعة."
ويدعم هذا الكلام المؤرخ روبرت هيكمان، حيث يصف هتلر ويقول:

"كان هتلر مؤمنًا للغاية بالتطور وداعيًا إليه. وبغض النظر عن عمق وتعقيدات هوسه، فإنه من المؤكد أن كتابه "كفاحي" وضع بوضوح عددًا من الأفكار الارتقائية، خصوصًا تلك التي تؤكد الصراع، والبقاء للأصلح، والإبادة للأضعف، وذلك لإنتاج مجتمع أفضل."
ونستطيع أيضًا أن نقرأ عن حدائق الحيوان البشرية التي كانت تضع بشرًا في الأقفاص إلى جانب حيوانات، على اعتبار أنهم "حلقات وسيطة أقل تطورًا".
فهل مبدأ مثل هذا يصلح ليكون تبريرًا للأخلاق وجودًا ومرجعية والتزامًا؟.

❂ الإجماع الأخلاقي:

الأخلاق هي ما يحدده المجتمع بالإجماع أنه أخلاقي وفقط. ومشكلة هذا التبرير، كما تقول الدكتورة نجلاء مصطفى - الحاصلة على دكتوراه في فلسفة الأخلاق - هي إعطاء المجتمع قدرات أكبر مما يمتلكها في الواقع.

فلا يخلو مجتمع من التعارض في وجهات النظر، فلا يوجد إجماع تام في الواقع. هذا فضلًا عن النسبية المتغيرة، فقد يُجمع مجتمع ما على محاربة وقتل مجتمع آخر للاستفادة من ثرواته، فهل جعل ذلك فعله أخلاقيًّا؟.

❂ العقل مصدر الأخلاق:  

والسؤال الواجب عرضه أولًا هو: ما هو العقل أصلًا؟.

العقل هو ملكة الشخص الفكرية والإدراكية، ويمكن اعتباره إحدى حواس الإنسان وأداته -المخ- مثل باقي الحواس من بصر أداته العين، ومن سمع أداته الأذن. ومثل باقي الحواس، من خصائصها أنها محدودة، فكذلك للعقل حدود.

ويجب توافر شروط فيه كي يكون سليمًا يقبل المعرفة، فمثلًا يجب أن يكون العقل سليمًا لا يوجد به أمراض (كالجنون أو التقيد بالعرف أو المحدودية)، ويجب أن يخلو من المعوقات الخارجية (كالجهل أو التسليم لأخبار مسبقة دون فحص).  
وكل ما سبق متغير من شخص لآخر، فالعقول ليست واحدة. إذن، لا يمكن إقامة تبرير لماهية الأخلاق بناءً على العقل -وحده-.

❂ الفطرة مصدر الأخلاق:

وهذا طرح اللادينيين، وهو القول بوجود إله وفطرة، ولكن لا نؤمن بدين معين. والإشكال في هذا الموضوع أن الفطرة هي ما تحدد النقيضين: الخير والشر. فالفطرة تحدد أن بر الآباء شيء أخلاقي وإيذاءهم غير أخلاقي.

لكن إلى أي حد هذه الطاعة؟، لا تحدد الفطرة ذلك. فهي لا تحدد هل حصول ضرر على الابن من أجل إسعاد والده شيء أخلاقي أم لا؟ هل أن يطلق ابن زوجته طاعة وبرًّا لأمه أخلاقي أم لا؟.

فاختصاص الفطرة هو تحديد الطرفين المتناقضين، وما بينهما تعجز عنه. وفي الواقع، إن حياة البشر ليست خيرًا مطلقًا وشرًّا مطلقًا فقط، بل بينهما مراحل تحتاج إلى تحديد ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي.


المبحث الثالث:

 تفكيك الاعتراضات الإلحادية على الأخلاق الإسلامية: من يوثيفرو إلى المغالطات

بعد أن أثبتنا في المبحث الأول استحالة تبرير الأخلاق موضوعيًّا دون مرجعية إلهية، وكشفنا في المبحث الثاني عن تناقضات المذاهب الإلحادية في تفسير القيم الأخلاقية، نصل اليوم إلى المحطة الأكثر إثارة في رحلتنا الفكرية:

تفنيد أشهر الاعتراضات على المنظومة الأخلاقية الإسلامية، فعندما فشل الملحدون في الإجابة عن السؤال الأخلاقي من حيث وجود الأخلاق، ومصدرها، ولماذا نشعر بأنها ملزمة لنا، اتجهوا إلى نقد المذهب الأخلاقي الديني. فسنعرض أشهر هذه الشبهات وردها.  

 معضلة يوثيفرو - أصل الأخلاق: 

معضلة يوثيفرو هي معضلة فلسفية عُرضت في كتاب حوار أفلاطون "يوثيفرو"، حيث سأل سقراط يوثيفرو - وكان شخصًا يؤمن بأن مصدر الأخلاق هو الإله - قائلًا: هل التقاة محبوبون من الآلهة لأنهم تقاة، أم أنهم تقاة لأنهم محبوبون من الآلهة؟ والمعنى: هل الله أراد شيئًا لأنه جيد، أم أنه جيد لأن الله أراده؟.

غرض هذه الشبهة هو نفي كون الله مرجع الأخلاق. فإذا قلت إن الأخلاق حسنة لأن الله أمر بها، فهذا يعني أن الأخلاق ليس لها معيار إلا إرادة الله فقط. فإذا أمر الله بقتل كل شخص مريض، فإن القتل حينئذ سيكون أمرًا حسنًا. وإذا أراد الله أن ينهى عن الصدق والرحمة، فسيكونان حينئذ أمرين قبيحين.  

وإذا قلت بالاحتمال الثاني، أن الله أمر بالأخلاق لأنها حسنة في ذاتها، فهذا يعني أن الأخلاق مستقلة عن ذات الله، ولها وجود قائم بنفسها بعيدًا عن الله، وحاكمة على اختياراته وإرادته. وهذا يناقض تمامًا القدرة والعلم الإلهيين، ويدل أيضًا على أن الإله خاضع لمعايير أعلى منه وأقدم. ويدل أيضًا على أننا لسنا بحاجة إلى الله ليكون مصدرًا للأخلاق، لأنه يمكننا أن ندرك تلك المعايير التي كانت حاكمة على إرادة الله فنحكم بها. فلا يدل وجود الأخلاق إذن على ضرورة وجود الخالق.  

الرد على معضلة يوثيفرو:

والرد أن هذه الشبهة مبنية على أساس وتصور عقلي خاطئ أصلًا، فنتج عنه الوصول إلى عرض متن خاطئ، وبالتالي الوصول إلى نتيجة خاطئة.  

⓵ مغالطات التصور العقلي:  

① أن المعضلة تستند إلى التصور اليوناني عن الآلهة، وهو تصور يقول بتعدد الآلهة وتحاربها ونقصها. فبالتالي، لا يمكن تطبيق هذا التصور على الأديان التوحيدية أو القائلة بكمال الخالق.  

② أنها تقوم على تصور خاطئ عن علاقة الله بالموجودات. فالله تعالى هو الخالق لكل شيء في الوجود، سواء كان ذلك الشيء من الأمور الحسية مثل الجبال والشجر، أو من الأمور المعنوية مثل معنى الرحمة وحسن الصدق وقبح الكذب وغيرها. فلا يوجد شيء من المحسوسات أو من المعايير والسنن إلا وهو مخلوق من مخلوقات الله. فكل هذه الأمور مخلوقة لله تعالى، وهو الذي صنعها وهيأها على هذا الحال، ولا شيء يخرج عن قدرته وإرادته.  

③ أنها مبنية على تصور ناقص عن صفات الله، فتتحدث عن الإرادة وتتجاهل الحكمة الإلهية. وصاحب المعضلة يتعامل مع الله وكأنه يخلق الأمور ويأمر بها بمحض الإرادة والقدرة فقط، ويتغافل عن صفة الحكمة. ولأجل ذلك، تصور أن الله يمكن أن يأمر بما هو شر محض، ويكون بذلك أمرًا أخلاقيًّا. والحقيقة أن ما اتصف الله به من كمال مطلق في الحكمة والعلم والقدرة والإرادة يمنع أن يأمر الله بما هو شر محض. ويعتقد المسلمون أن الله لا يأمر إلا بما هو خير ولا ينهى إلا عما هو شر.  

④ أن الشبهة مبنية على الخلط بين معنى الخلق ومعنى الأمر. فالله تعالى خلق كل شيء في الوجود، حسنَه وقبيحَه، فلا يخرج شيء في الوجود عن خلقه سبحانه. ولكنه لا يأمر إلا بما هو حسن ولا ينهى إلا عما هو قبيح. فالأمر التكليفي أضيق من الخلق، ودائرة الخلق تشمل ما أمر الله به وما لم يأمر به.  


ونتيجة لهذه المغالطات التصورية، ظهرت مغالطات في عرض متن الشبهة نفسه.  

⓶ مغالطات متن معضلة يوثيفرو:

① التصوير الزائف، وهو أن يصور المناظر المسألة التي وقع فيها الاختلاف بصورة غير الصورة التي هي عليها، ويطلب من المخالف له أن يناقشها بناءً على هذا التصوير.  

② الحصر المخادع، وهو أن يحصر المناظر الاحتمالات للإجابة عن السؤال في عدد معين، ثم يطلب من مناظره أن يختار منها احتمالًا، بينما يكون الجواب الصحيح في احتمال ثالث لم يذكره فيما حدده من احتمالات.

فهو يبني حجته على أن الله تعالى يمكن أن يفعل لمحض الإرادة من غير حكمة، أو أن معيار الحسن والقبح خارج عن خلق الله وقدرته.

وهذا الحصر للاحتمالات لا يصح إلا في حال أن يكون الفاعل غير متصف بالحكمة، فيفعل الأمور لمحض المشيئة فقط.

ولا يصح أيضًا إلا في حال أن تكون الأمور الموجودة في الواقع ثلاثة: الفاعل، ومعيار الحسن والقبح، والفعل المجرد، وكل واحد مستقل عن الآخر.  

وكل هذه الأمور غير ممكنة في حق الله تعالى، لأنه لا يفعل فعلًا بغير حكمة إلهية، ولأن معيار الحسن والقبح وكذلك الأفعال ليست أمورًا مستقلة عن الله حتى يقال: هل اختار الله الفعل الأخلاقي لكونه حسنًا أم لا؟.

فلا يوجد في التصور العقلي إلا فرض واحد فقط، وهو أن الله أمر بالأفعال الحسنة لأنه خلقها على هيئة حسنة، ولأن حكمته لا تأمر إلا بما هو حسن، ونهى عن الأفعال القبيحة لأنه هيأها على هذه الهيئة، وحكمته تقتضي ألا يأمر بما هو قبيح.  

❂ الدين فيه أمور غير أخلاقية:

وهذا الاعتراض قائم على المصادرة على المطلوب.  

لأن محل النزاع هو معيارية الأخلاق وثبوتها ووجودها، وأنت لم تستطع أن تقدم لي أي مذهب كامل يشمل هذه الجوانب الثلاثة، فبذلك يكون اعتراضك هذا عبثيًّا.  

حتى لو سلمنا بأنه يمكن إيجاد منظومة أخلاقية في الإلحاد، فلن تكون مبنية على أسس موضوعية، بل ذاتية أو نسبية. فاللاديني مثلًا أمامه خياران: إما أن يقول إن الأخلاق موضوعية، فيتناقض مع معتقده الرافض للأديان، أو يقول إنها ذاتية، وبالتالي يلزم منه عدة أمور، وهي:  

❶ أن الأخلاق نسبية تختلف باختلاف الذوات.  

❷ أنه لا يمكن استبشاع أي فعل أخلاقيًّا.  

❸ أنه ليس للعهود والمواثيق قيمة.  

❹ أننا لسنا بحاجة إلى تبرير الجرائم والإفساد في الأرض.  

❺ أن كل الإدانات الأخلاقية للمجرمين ليس لها معنى.  

❂ أخلاق الملحدين أفضل من أخلاق المسلمين لأنها نابعة من دافع داخلي وليس خوفًا من النار أو طلبًا للجنة: 

وهذا ادعاء قائم على مغالطة التوسل بالمرجعية.  

فالملحد ليس لديه دافع داخلي ولا خارجي للأخلاق أصلًا. وإن مارسها، فهذا لا يعني أن إلحاده متسق مع فعله، بل هو تناقض.

فكما يقول الدكتور المسيري إن الفرد العلماني أفضل من نموذجه، فأنا أقول إن الفرد الملحد بفطرته أفضل من نموذجه، لأنه مستحيل أن يعيش في حالة اللاأخلاقية التي يؤدي إليها مذهبه. فالمقارنة الصحيحة تكون بين الإلحاد والإسلام، وليست بين الملحد والمسلم.  

هذا فضلًا عن أن الأخلاق في الإسلام ليست نابعة فقط من فكرة الثواب والعقاب، بل هي نابعة من محبة الله ومحبة صفاته، وهي صفات الخير والكمال والعدل والكرم والرحمة، وكراهية الشر الذي هو أبعد ما يكون عن صفات الخالق. فجوهر الإسلام هو محبة الله المتصف بصفات الخير، والتقرب إليه بتزكية النفس بعمل الخير والبعد عن الشر. فتصوير المؤمن على أنه شرير محب للشر ولكن يمنعه من ذلك خوفه من العقاب الأخروي هو تصور في غاية السخافة.


المبحث الرابع:

 الأخلاق الإسلامية: الحل الشامل لمعضلات الفلسفة الأخلاقية

بعدما عرضنا البرهان الأخلاقي؛ بدءًا بتفكيك الأسس الفلسفية للأخلاق المادية، مرورًا بنقض التبريرات الإلحادية، ووصولًا إلى دحض أشهر الشبهات، نصل في هذا المبحث إلى الذروة المنطقية لدراستنا: الرؤية الإسلامية الشاملة للأخلاق - حيث تتحول النظرية إلى تطبيق، والبرهان إلى واقع ملموس.

❂ الأخلاق الإسلامية:

بعد أن نقدنا المذاهب والتبريرات المختلفة المفسرة للأخلاق الإنسانية، وأوضحنا كيف أن كل هذه المذاهب عاجزة عن تبرير الموقف الأخلاقي لدى البشر، حان الوقت لعرض التبرير الديني للأخلاق.  

١. الأخلاق الإسلامية حيث الوجود:

أثبتناه خلال المباحث السابقة أن الأخلاق مصدرها الفطرة، وهي ما تحدد طرفي الخير والشر وبعض الأفعال لا كلها. والدين جاء ليفصل إجمال الفطرة، فالفطرة تقول بحسن طاعة الوالدين، ولكنها لا تحدد إلى أي درجة تكون هذه الطاعة. فيأتي الدين مفصِّلًا للإجمال، ويقول بطاعتهم طالما أن ذلك لا يسبب ضررًا شخصيًّا لي، فلا ضرر ولا ضرار، مع إمكانية عدم الانصياع لأوامرهم إن كان أمرًا شخصيًّا مثل تناول نوع معين من الطعام.  

٢. الأخلاق الإسلامية من حيث المرجعية:

فمرجعية الأخلاق الإسلامية هي الله، سواء إجمالًا بالفطرة أو تفصيلًا بالشرع.  

٣. الأخلاق الإسلامية من حيث الإلزام:

فهو بسبب أكثر من أمر، مثل أن يكون شعور وجوب الالتزام بها حبًّا لله، واهب هذه الأخلاق أصلًا، أو بسبب صوت الفطرة، أو بسبب نصوص الشرع.  

فالأخلاق دليل على وجود الخالق. يقول عزت بيجوفيتش:

"كظاهرة واقعية في الحياة الإنسانية، لا يمكن تفسيرها تفسيرًا عقليًّا، ولعل في هذا الحجة الأولى والعملية للدين. فالسلوك الأخلاقي إما أنه لا معنى له، وإما أنه له معنى في وجود الله، وليس هناك اختيار ثالث. فإما أن نسقط الأخلاق باعتبارها كومة من التعصبات، أو أن نُدخل في المعادلة قيمة يمكن أن نسميها الخلود. فإذا توافر شرط الحياة الخالدة، وأن هناك عالمًا آخر غير هذا العالم، وأن الله موجود، بذلك يكون سلوك الإنسان الأخلاقي له معنى وله مبرر."


❂ شمولية الأخلاق الإسلامية:  

❁ طبيعة الأخلاق الإسلامية:

هي قائمة على جميع مناحي حياة الإنسان، فهي تشمل العبادات الفردية والمعاملات الجماعية، ولا تفرق بينهما، حتى إن كل عبادة لله لها أصل أخلاقي يجب أن ينعكس في تعاملك مع الناس.  

يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾  

ويقول أيضًا في كتابه الحكيم: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾  

فمهمة الرسول هي تزكية النفس وتعليم الدين، وقد سبق الله تعليم الأخلاق على تعليم الدين والعبادات.  

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقًا، وخياركم خياركم لنسائهم خُلُقًا".  

حتى إن الأخلاق سبب في دخول الجنة مع الإيمان فقط، وإن قل العمل الصالح والعبادات. فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

"إن رجلًا لم يعمل خيرًا قط، وكان يداين الناس، فيقول لرسوله: خذ ما تيسر، واترك ما عسر، وتجاوز، لعل الله تعالى أن يتجاوز عنا. فلما هلك، قال الله عز وجل له: هل عملت خيرًا قط؟ قال: لا! إلا أنه كان لي غلام، وكنت أداين الناس، فإذا بعثته ليتقاضى، قلت له: خذ ما تيسر، واترك ما عسر، وتجاوز، لعل الله يتجاوز عنا. قال الله تعالى: قد تجاوزت عنك."  


❁ الأخلاق الإسلامية والتعامل مع جميع المخلوقات:

الأخلاق الإسلامية لا تقتصر على التعامل مع الإنسان فقط، بل حتى مع الحيوانات والطبيعة. فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن امرأة بغيًّا رأت كلبًا في يوم حار، يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها، فغُفر لها."  


❁ النموذج التطبيقي للأخلاق الإسلامية:

إن خير ممثل لكل تلك النصوص وباقي النصوص هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما سُئلت أمنا عائشة رضي الله عنها عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: "كان خُلُقه القرآن." ولمعرفة أخلاقه، يمكن قراءة سيرته صلى الله عليه وسلم.  


❂ الميزة الأساسية في الأخلاق الإسلامية:

الميزة في الأخلاق الإسلامية هي الوسطية. فالأخلاق الإسلامية تتعامل مع الإنسان الكل المركب من جسد وروح، ولا تطغى على أحدهما.

بالأخلاق الإسلامية ليست مثل الفلسفات الهندية القائلة بأن الجسد سجن للروح ويجب تحطيم الجسد لتتحرر الروح.

ولا مثل الفلسفات المادية القائلة بوجوب إشباع الرغبات المادية فقط دون اهتمام بالروح.

بل جاءت أخلاق الإسلام تدعو إلى الوسطية والتوازن بين رغبات الروح ورغبات الجسد دون طغيان على أي من الجوانب.  

وكما أن هناك طرفين هما الفردانية والاجتماعية، مثل أفكار أفلاطون للدولة المثالية الجماعية التي قضت فيها على أي مظهر من مظاهر إنسانية الفرد ليكون المجتمع الكلي الفاضل، ومثل الأفكار الفردانية التي تصل إلى تأليه الإنسان، فالإسلام يقف كوسط بين طرفين متطرفين، ويوازن بين الفرد والمجموع.  


الآن، وفي الختام، بعد عرض جميع الأطراف وتوضيح رأي كل طرف منهم، يمكن أن نلخص كل ذلك في البرهان الأخلاقي، وهو:  

⓵ إن كان الله موجودًا، فيُتوقع وجود خير وشر.  

⓶ ووجود أخلاق موضوعية ملزمة.  

⓷ وإن لم يكن موجودًا، فلا معيار لـ:  

     ❶ التمييز بين الخير والشر.  

     ❷ شيء يستحق الوصف بالخيرية.  

     ❸ معنى لمدح شيء بأنه خير أو شرير.  

     ❹ مصدر لوصف الشيء بأنه أخلاقي أو لا.  

     ❺ إلزام بالأخلاق، أو لوجود استثنائية إنسانية.  

⓸ فالأخلاق حينئذ ذوق شخصي غير ملزم للغير.  

وبشكل أوضح:  

⓵ إذا لم يكن الله موجودًا، فالقيم الموضوعية غير موجودة.  

⓶ القيم الموضوعية موجودة.  

⓷ إذن، الله موجود.


الاستنتاجات والتوصيات

أولًا: الاستنتاجات  

١. استحالة تبرير الأخلاق موضوعيًا دون مرجعية إلهية، حيث أن المذاهب المادية والإلحادية تعجز عن تقديم أساس متين للأخلاق، مما يؤدي إما إلى نسبية مطلقة أو تناقض ذاتي.  

٢. فشل المحاولات الإلحادية لتأسيس الأخلاق، سواءً بالمنفعة أو التطور أو الإجماع المجتمعي، لأنها تفتقر إلى الإلزام الأخلاقي المطلق وتجعل القيم خاضعة للتغيرات الظرفية.  

٣. تميز المنظومة الأخلاقية الإسلامية بشموليتها وربطها بين الفطرة والعقل والوحي، مما يجعلها قادرة على تقديم إجابات واضحة ومتزنة للمسائل الأخلاقية المعقدة.  

٤. البرهان الأخلاقي كدليل على وجود الله، حيث أن وجود قيم موضوعية ملزمة يتطلب مصدرًا مطلقًا (الإله)، مما يعزز الحاجة إلى الإيمان كأساس لفهم الأخلاق والتزامها.  

ثانيًا: التوصيات

١. تعزيز الحوار الفلسفي حول الأخلاق والدين

- تشجيع المناقشات العقلانية بين المؤمنين والملحدين حول أسس الأخلاق، مع التركيز على إبراز قوة الرؤية الإسلامية في تقديم إجابات متكاملة.  

- تفنيد الشبهات الإلحادية حول الأخلاق الدينية من خلال أدلة عقلية ونقلية واضحة.  

٢. التركيز على التربية الأخلاقية في التعليم

- إدراج مقررات تعليمية تعرّف بالأخلاق الإسلامية كمذهب فلسفي متكامل، وليس مجرد تعاليم دينية.  

- تعزيز النماذج التطبيقية من السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي لإثبات إمكانية تطبيق الأخلاق الإسلامية في الحياة المعاصرة.  

٣. مواجهة التحديات الأخلاقية المعاصرة

- تقديم رؤية إسلامية وسطية لقضايا أخلاقية حديثة مثل الذكاء الاصطناعي، والبيوتكنولوجي، وحقوق الإنسان، مع الحفاظ على الثوابت الشرعية.  

- نقد النظريات الأخلاقية الغربية (كالبراغماتية والوجودية) من منظور إسلامي، وإبراز نقاط الضعف فيها.  

٤. تطوير خطاب إسلامي يجمع بين العقل والنقل

- دعم الدراسات الأكاديمية التي تربط بين الفلسفة الإسلامية والعلوم الإنسانية الحديثة.  

- تشجيع المفكرين المسلمين على تقديم كتب ومقالات باللغات العالمية لشرح المنظور الإسلامي للأخلاق بطريقة عقلانية وجذابة.  


الخاتمة

الأخلاق ليست مجرد قواعد سلوكية، بل هي نظام قيمي يعكس رؤية الإنسان للوجود والغاية من الحياة. ولذلك، فإن تبني رؤية إسلامية متكاملة للأخلاق يسهم في بناء مجتمع فاضل، ويقدم إجابات مقنعة للتحديات الفكرية المعاصرة.  

"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (النحل: 90).  


بهذه القيم الأصيلة، يمكن للإسلام أن يظل منارةً للهداية الأخلاقية في عالم متغير.


المصادر

- المصادر العربية:

1. القرآن الكريم.

2. السنة النبوية.

3. بيجوفيتش، ع. (1994). الإسلام بين الشرق والغرب. مكتبة العبيكان.

4. تزورتسيس، حمزة. (بدون تاريخ). الحقيقة الإلهية.

5. الهبيلي، محمد صالح. (بدون تاريخ). التطور نظرة تاريخية وعلمية.

6. شريف، عمرو. (بدون تاريخ). خرافة الإلحاد.

7. مصطفى، نجلاء. (بدون تاريخ). فلسفة الأخلاق. جامعة بني سويف.

- المصادر الإنجليزية:

8. Dawkins, R. (1995). River Out of Eden: A Darwinian View of Life. Basic Books.

9. Hawking, S. (2010). The Grand Design (التصميم العظيم). Bantam Books.

10. Hickman, R. (بدون تاريخ). Biocreation. (ص 51-52).

11. Kane, R. (1996). The Significance of Free Will. Oxford University Press.

12. Kant, I. (1785). Groundwork for the Metaphysics of Morals.

13. Vasey, C.M. (بدون تاريخ). Nazi Ideology. (ص 51).

14. Weikart, R. (2004). From Darwin to Hitler: Evolutionary Ethics, Eugenics, and Racism in Germany. Palgrave Macmillan. (ص 215-233).

- المصادر الإلكترونية

15. Tzortzis, H. (بدون تاريخ). Know God, Know Good: God & Objective Morality. تم الاسترداد من


16. Human exceptionalism. (2013, January). Psychology Today. تم الاسترداد من


17. Nihilism. (بدون تاريخ). Internet Encyclopedia of Philosophy. تم الاسترداد من 


18. Morality. (بدون تاريخ). ScienceDirect. تم الاسترداد من


19. Human zoos. (2000, August). Le Monde diplomatique. تم الاسترداد من

تعليقات