الوجودية الشرقية: إعادة اكتشاف الجذور المنسية للفلسفة الوجودية

الوجودية الشرقية: إعادة اكتشاف الجذور المنسية للفلسفة الوجودية

 

الوجودية الشرقية: إعادة اكتشاف الجذور المنسية للفلسفة الوجودية

الوجودية الشرقية: إعادة اكتشاف الجذور المنسية للفلسفة الوجودية

ماذا لو أخبرتك أن الوجودية تعود بجذورها إلى ما قبل سارتر وكامو لم يخترعا الوجودية، وإنهما كانا مجرد واريثين لفكر شرقي عمره آلاف السنين؟.

لطالما عُرِّفت الوجودية في الأكاديميات الغربية على أنها حركة فلسفية نشأت في أوروبا في القرن العشرين، مع سارتر وكامو وياسبرس، كرد فعل على الحربين العالميتين وانهيار الميتافيزيقا التقليدية، ويُقدَّم على إنه استجابة فريدة لانهيار اليقينيات في عالم ما بعد الحربين العالميتين.

يُصوَّر هذا التيار على أنه ثورة فريدة في تاريخ الفكر الإنساني، تركّز على حرية الفرد المطلقة، وعبثية الوجود، ومسؤولية الإنسان عن خلق معناه الخاص في عالم خالٍ من المعنى المسبق؛ والذي يعبرون عنه في المبدأ الشهير 'الوجود يسبق الماهية'.

هذا التعريف الأكاديمي، رغم صحته الجزئية، يسقط سهوًا أو عمدًا جذور هذه الأفكار في التراث الشرقي العريق.

الحقيقة التي يغفلها هذا الخطاب أن الأسئلة الوجودية الأساسية والتي تدور حول - معنى الحياة، طبيعة الحرية، مواجهة العبث، والقلق الوجودي - قد شغلت الفلاسفة والمتصوفة الشرقيين قبل قرون من ميلاد سارتر.

من تأملات بوذا المستنير حول المعاناة، إلى شعر الرومي عن البحث عن الذات، إلى مفهوم "الكائن-في-العالم" عند ابن عربي الذي سبق هايدغر بسبعة قرون - كلها تشكل إجابات شرقية على الأسئلة نفسها التي ادعى الغرب اختراعها.

في هذا المقال، سنسلط الضوء على هذا الإرث المنسي، معتمدين على نصوص صوفية وبوذية قديمة، لنثبت أن الوجودية -كفكرة وموضوع فلسفي- لم تكن اختراعاً غربياً، بل كانت حلقة في حوار إنساني طويل تجاوز الحدود الجغرافية والزمنية.

هذا المقال يسلط معول الشك على أسطورة الأصل الغربي للوجودية، من خلال أسس أربعة لبيان أن المفاهيم الوجودية الأساسية كانت حاضرة في الفكر الشرقي بقوة ومنذ القدم.

الأساس الشرقية للفلسفة الوجودية:

١. كيف شرح الفلاسفة الشرقيون المفاهيم الوجودية قبل الغرب؟.

يزعم الخطاب الفلسفي الغربي السائد أن المفاهيم الوجودية الأساسية مثل "القلق الوجودي"، "العبث"، و"الحرية المطلقة" هي من اختراع فلاسفة أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين، معتبرين أن ما سبقها من أفكار شرقية لم يتجاوز كونه تأملات دينية أو صوفية تخلو من العمق الفلسفي.

هذا الادعاء يتجاهل عمداً التشابه المدهش بين الاطروحات الوجودية الغربية وما ورد في التراث الشرقي القديم.

ففكرة "القلق" التي اشتهر بها كيركجور نجد ما يماثلها في مفهوم "الحيرة" الصوفية عند الرومي والمتصوفة المسلمين الذين وصفوا الحالة الوجودية للإنسان الباحث عن المعنى.

نجد في في شعر جلال الدين الرومي:

"الحيرة شرطُ الوصول .. فمن لم يحترق بحيرته، لم يتذوق حلاوة اليقين."

أما "العبث" الذي تناوله كامو، فله نظير في مفهوم "السامسارا" البوذي الذي يصور الحياة كدورة معاناة لا معنى لها. بل يمكن القول إن البوذية تفوقت في فكرها عندما قدمت حلاً عمليًا له عبر "النيرفانا".

وحتى فكرة "الموت" كموقف حدي عند ياسبرس، نجدها مطروحة في نصوص التبت القديمة التي تتحدث عن الموت كبوابة للوعي الوجودي.

الأدلة النصية تثبت أن هذه المفاهيم لم تكن غائبة عن الفكر الشرقي، بل كانت مطروحة بصيغ مختلفة، مما ينقض فكرة الأصالة الغربية.

٢. الوجودية الشرقية: لماذا تم محوها من التاريخ الفلسفي؟.

يدّعي المؤرخون الغربيون أن الوجودية ظاهرة مرتبطة حصرًا بالحداثة الأوروبية وما بعدها، معتبرين أن السياقات التاريخية والاجتماعية التي أنتجت سارتر وكامو فريدة من نوعها. هذا الادعاء يتجاهل حقيقتين أساسيتين:

  • السياقات التاريخية المماثلة في الشرق:

- عصر ابن عربي (القرن 12-13) شهد أزمات وجودية مماثلة مع سقوط الأندلس في عصر ابن عربي، مما أنتج تأملاته في "الوجود المطلق" و"وحدة الوجود" مشابهه لتلك التي وجدت عقب الحرب العالمية.

- حروب الممالك الهندية القديمة أوجدت فلسفة "المايا" (الوهم الكوني) في الأوبانيشاد (800 ق.م)

  • الاستجابات الفلسفية المتشابهة:

- مفهوم "الموت الاختياري" في زن البوذية (القرن 6) يشبه موقف سارتر من الموت كإمكانية وجودية قصوى.

- نصوص التصوف الإسلامي مثل "مناجيات" رابعة العدوية (القرن 8) تناولت العزلة الوجودية قبل كيركغورد بقرون

هذه الأمثلة التاريخية تثبت أن الأزمات الوجودية والاستجابات الفلسفية لها ليست حكرًا على الغرب الحديث، بل هي نمط متكرر في التاريخ الإنساني.

ويرجع ما سبق من إنكار لدور الشرق الفكري وفقًا للمفكر إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" إلى إنه:

"تم تصوير الشرق كمصدر للروحانيات فقط، بينما حُوصر العقل الفلسفي في الغرب."


٣. إنكار التشابه بين الاطروحات الوجودية الشرقية والغربية:

يرد العديد من الباحثين الغربيين على ما سبق من وجود تشابهات فكرية بأن التشابه بين الأفكار الوجودية في الشرق والغرب هو مجرد أوجه تشابه سطحية، وأن الجوهر الفلسفي يختلف جذرياً.

هذا الادعاء يتجاهل عمق التقاطعات الفكرية بين الطرفين، كما يتضح من المقارنات التالية:

  • الغثيان السارتري والتناسخ البوذي:

- عند سارتر: الغثيان هو إدراك عبثية الوجود وافتقاده للمعنى الجوهري

- في البوذ.ية: مفهوم "السامسارا" (دورة التناسخ) يعبر عن نفس الإحساس بالعبثية والرغبة في التحرر.

  • الحرية المطلقة:

- الوجوديون الغربيون: الحرية مسؤولية ثقيلة وعبء وجودي.

- المتصوفة المسلمون: "كن عبداً للحقيقة ولا تكن عبداً للعبيد" (الحلاج).

  • الالتزام الوجودي والكارما:

- عند سارتر: الالتزام باختياراتنا يخلق المعنى.

- في الهندوسية: مبدأ الكارما يؤكد على مسؤولية الفرد عن أفعاله.

  • الموت كموقف حدي:

- عند هيدغر: الموت يمنح الحياة معناها.

- في التبت: تأمل الموت هو بوابة للوعي الحقيقي.


هذه المقارنات تثبت أن التشابه ليس سطحياً، بل يعكس تقارباً جوهرياً في الرؤى الوجودية عبر الحضارات.

الفارق الرئيسي يكمن في أن الشرق تعامل مع هذه الأسئلة بروح تأملية شمولية، بينما عالجها الغرب بقلق فرداني حديث.


٤. ادعاء تفوق المنهجية الوجودية الغربية في الدقة والصرامة الفلسفية:

حتى إذا أعترف أحد الباحثين بوجود صلة بين الفكرين، الشرقي والغربي، إلا أن كثير منهم يزعم أن الوجودية الأوروبية تميزت عن نظيراتها الشرقية بمنهجية فلسفية أكثر دقة وصرامة، مستندة إلى التحليل المنطقي والنقد العقلاني، بينما يصورون الطروحات الشرقية على أنها غامضة أو شعرية أو غير منهجية. هذا الادعاء يتجاهل عدة حقائق جوهرية:

  • الدقة المنهجية في التراث الشرقي:

- أعمال ابن عربي مثل "فصوص الحكم" تقدم تحليلات منهجية دقيقة لمفاهيم الوجود والعدم.

- المدارس البوذية مثل "المادياميكا" طورت منهجيات جدلية متقنة.

  • البناء المفاهيمي المتسق:

- التصوف الإسلامي وضع مصطلحات فلسفية دقيقة مثل "الوجود المطلق" و"الفيض".

- فلسفة "الزن" لديها نظام مفاهيمي متكامل حول الوعي والوجود.

  • الأدوات التحليلية:

- المناظرات الجدلية في الهند القديمة كانت تضاهي دقة المنطق الأرسطي.

- المتصوفة المسلمون استخدموا الاستدلال العقلي إلى جانب الذوق الروحي.

  • التوثيق التاريخي:

- المخطوطات الفلسفية الهندية والعربية تحوي شروحاً وتحليلات منهجية.

- كتاب "مشكلات الآثار" للكلاباذي يقدم تحليلاً فلسفياً دقيقاً للتجربة الوجودية.


هذه الأدلة تثبت أن الوجودية الغربية لم تكن "معجزة فكرية" منعزلة، بل كانت جزءاً من حوار إنساني طويل. إنكار هذا التأثير ليس إلا استمراراً للتمركز الغربي الذي يحاول احتكار الإبداع الفلسفي.

ربما حان الوقت لكتابة تاريخ جديد للفلسفة، يعترف بحوار الحضارات بدلًا من احتكار الإبداع.

والسؤال الأهم: كم من الأفكار "الغربية" الأخرى هي في الحقيقة شرقية المنشأ؟. وهل يصح بعد هذا كله الحديث عن "أصالة" الوجودية الأوروبية؟.

وما رأيك؟ هل تعتقد أن المركزية الأوروبية ما زالت تُشوّه قراءتنا للفلسفة؟ شاركنا في التعليقات.


اقرأ أيضًا

الماعت المصرية: تفكيك أسطورة الأخلاق الغربية العقلانية رابط المقال.

تعليقات