تآليه الإنسان وأنسنة المقدس: بين التأويل والانحراف عن التشريع

تآليه الإنسان وأنسنة المقدس: بين التأويل والانحراف عن التشريع


تآليه الإنسان وأنسنة المقدس: بين التأويل والانحراف عن التشريع

تآليه الإنسان وأنسنة المقدس: بين التأويل والانحراف عن التشريع

 في عصرٍ يُعلَن فيه كل يوم ميلادُ "مُجدِّد" جديد، يخرج إلينا باحثون يُمسكون بمفك التأويل ليفكّكوا النصوص المقدسة، ثم يعيدون تركيبها على مقاس الأهواء البشرية!. ليست هذه مجرد اجتهادات خاطئة عابرة، بل هي تحوُّل جذري في العلاقة بين الإنسان والمقدَّس: من علاقة خضوعٍ وتلقٍّ إلى علاقة هيمنةٍ وتشكيل.  

ما يحدث اليوم ليس مجرد "تيسير" أو "مراعاة للواقع"، بل هو قلبٌ للمعادلة التشريعية ذاتها. فبعد أن كان المشرِّع هو الله، والإنسان مُتلقِّيًا لأحكامه، صرنا أمام نموذجٍ جديد يُعلِي العقلَ الفردي إلى درجة التقديس، ويُنزِّل النصَّ الديني إلى ساحة النقاش البشري، وكأنه مجرّد "رأي قابل للتعديل"!.

النصوص لم تعد ذلك المرصادَ المتين الذي يقف شامخًا أمام أمواج الأهواء، بل تحوّلت إلى صلصالٍ ليّن في أيدي "الباحثين" الذين يصوغونها كيفما يشتهون، ثم يقدّمونها للجمهور على أنها "الدين الصحيح"!.

الخطر هنا -بالطبع- ليس في الاختلاف الفقهي الطبيعي، والذي كان موجودًا منذ عهد تلقي الرسالة السماوية على قلب الرسول الآمين صلى الله عليه وسلم، بل الخطر في اختراق حُرمة المقدَّس نفسه.

عندما تُختزل الشريعة إلى مجرّد انعكاس للرغبات الإنسانية، وتفقد استقلاليتها كمرجعيةٍ متعالية، فإننا لا نُغيّر الدين فحسب، بل نُغيّر فكرة "الدين" ذاتها في الوعي الجمعي.

السؤال المركزي: هل ما زال هناك حدٌّ فاصل بين "الاجتهاد المشروع" و"التشريع البديل"؟ أم أننا -دون أن ندري- نعيش زمنًا جديدًا حيث يصبح كل إنسان "إلهًا" يُشرّع لنفسه؟!.


هذه الظاهرة ليست مجرد شذوذٍ عابر، بل هي زلزالٌ هادئ يهدّد الأسس التي قامت عليها الأديان كلها: قداسة النص، وثبات التشريع، وتمايز المطلق عن النسبي. فكيف وصلنا إلى هنا؟. وما الذي يمكن فعله لاستعادة التوازن؟.


المحور الأول: التأسيس الفكري - من القداسة إلى الأنسنة 

في قلب هذه الظاهرة تكمن إشكالية فلسفية عميقة، هي تحويل العلاقة بين المقدس والإنسان من علاقة "خضوع وتلقٍّ" إلى علاقة "هيمنة وتشكيل".

لم تعد النصوص الدينية في هذا المنظور ذلك الحَكَم المتعالي الذي يوجه الحياة البشرية، بل أصبحت مادة خام بين أيدي المفسرين الجدد، يُعيدون تشكيلها كما تُعيد آلة الصناعة صهر المعادن وإعادة تشكيلها!.

يمكن تتبع جذور هذه الظاهرة في التحولات الفلسفية الحديثة التي بدأت مع عصر الأنوار، حين تم تنصيب "العقل البشري" إلهاً أعلى. لكن الجديد اليوم هو تطبيق هذه النزعة على النصوص الدينية بشكل مباشر وصريح.

"تأليه الإنسان" هنا لا يعني بالضرورة إعلاء شأنه الروحي، بل تحويله إلى مصدر تشريعي بديل، حيث تصبح رغباته الفردية واتجاهات المجتمع هي المقياس الذي يُقاس به النص الديني، لا العكس.

أما "أنسنة المقدس" فهي العملية التوأم لهذه الظاهرة، حيث تُجرد النصوص من طابعها المتعالي لتصبح مجرد انعكاس للتجربة البشرية.

الدين في هذه الحالة لم يعد ينطلق من السماء إلى الأرض، بل يصعد من الأرض ليملأ فراغ السماء! يصبح المقدس هنا مرآة تعكس فقط ما نريد أن نراه، لا ما يجب أن نراه.

في الجانب الأنثروبولوجي، تمثل هذه الظاهرة انتصاراً للنزعة الإنسانية المتطرفة التي ترفع شعار "لا شيء فوق الإنسان". لكنها في الحقيقة تنقلب إلى ضرب من "الاستعمار الفكري" للنصوص المقدسة، حيث تُغتصب دلالاتها الأصلية لتحمل معاني لم تُقصد أصلاً.

إنها عملية "استيطان" للمعنى الديني، تبدأ بتأويل النصوص وتنتهي بمصادرتها لصالح الخطاب الإنساني المحض.


تاريخياً، يمكن رصد ثلاث مراحل لظاهرة تآليه الإنسان وأنسنة المقدس:

مرحلة الاحتراز: حيث كان الخوف من المساس بالنص يمنع أي عبث بتأويلاته.

مرحلة التبرير: حيث بدأ البحث عن مخارج شرعية لتلبية الحاجات المستجدة.

مرحلة التمرد: حيث أصبح تغيير النص نفسه ممكناً تحت دعاوى التجديد.

الأخطر في هذا التحول أنه لم يعد مقتصراً على دوائر النخبة، بل انتشر كظاهرة جماهيرية عبر وسائل التواصل الحديثة، حيث أصبح كل شخص "مفسراً" و"مجتهداً" دون أدنى مؤهلات.

لقد تحول الدين في هذا السياق من نظام قيمي متكامل إلى "بضاعة ثقافية" تخضع لقوانين السوق والعرض والطلب، حيث "الفتوى الأكثر رواجاً" وليس "الأكثر صحة" هي التي تتصدر المشهد.


والتاريخ الإسلامي يحوي أمثلة مبكرة على هذه النزعة، من الخوارج الذين حكّموا أهواءهم في النصوص، إلى بعض المتأخرين الذين حوّلوا الفقه إلى مجرد تبرير للواقع السياسي. لكن الجديد في عصرنا هو تحويل هذه الممارسة من شذوذ إلى منهج، ومن خطأ فردي إلى تيار فكري له أصوله النظرية وآلياته التطبيقية.

ونذكر من الأمثلة التاريخية التوضيحية:

١. الخوارج: تأويل النصوص لخدمة الأهواء السياسية.

ظهر الخوارج بعد معركة صفين (37 هـ) حين رفضوا التحكيم بين علي بن أبي طالب ومعاوية، معتبرين أن "الحكم إلا لله" (من سورة يوسف:40) حرفياً، دون اعتبار للسياق السياسي.

قد اختزلوا آية "إن الحكم إلا لله" من كونها تقريراً لعقيدة التوحيد إلى شعار سياسي يحرّم أي تفاوض.

من ثم تجاهلوا الأحاديث النبوية التي توجب طاعة الإمام.

والنتيجة إنهم أسسوا لمبدأ تكفير المسلمين (وصف علي بـ"الكافر" لأنه قبل التحكيم). ودمروا مفهوم "الاجتهاد الجماعي" لصالح الفهم الفردي المتطرف.


٢. العصر العثماني: تبرير الظلم السياسي عبر الفتوى.

أصدر بعض المفتين فتاوى بتحريم الثورة على السلطان الظالم مستندين إلى أحاديث الطاعة، بينما أهملوا النصوص الأخرى التي تحرم الظلم (كآية "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا").


كلا المثالين يستخدمان "الأدلة الشرعية" لكن بعد تفريغها من مقاصدها. فيتم تحويل النصوص من ضوابط أخلاقية إلى أدوات تبريرية.

أما في العصر الحديث، التبرير لم يعد سياسياً فقط بل يشمل أيضاً الأهواء الاجتماعية (كالزواج المثلي تحت مسمى "الرحمة").


هذه الأمثلة تكشف نمطاً متكرراً في التاريخ الإسلامي:

١. مرحلة التوظيف: حيث يُختزل النص الشرعي إلى مجرد شعار.

٢. مرحلة التبرير: حيث يُستخدم النص لتغطية الممارسات المخالفة.

٣. مرحلة التقديس: حيث يصبح الفهم البشري للنص مقدساً بذاته.


المحور الثاني: التأويل المتطرف - الآليات والتداعيات

تتخذ عملية الانزياح عن النصوص الشرعية عدة آليات منهجية تخفي تحت عباءة "الاجتهاد" ما هو في الحقيقة تحريف للمقاصد. ولعل أخطر هذه الآليات:

١. آلية تفكيك النص وإعادة تركيبه:

حيث يتم انتزاع الآيات والأحاديث من سياقاتها التاريخية واللغوية، ثم إلباسها دلالات جديدة تخدم التوجه المسبق. مثال ذلك من يستشهد بـ"لا إكراه في الدين" لإسقاط فريضة الأمر بالمعروف، متجاهلاً عشرات النصوص الأخرى التي تؤسس لضوابط الدعوة.

٢. استغلال المفاهيم المرنة:

مثل التركيز على "الرحمة" و"التيسير" كشموليات مطلقة، بينما يتم إهمال النصوص التي تحدد ضوابطها. وهنا يتحول الدين من نظام متوازن إلى مجموعة من الشعارات الفضفاضة.

٣. اللعب على تناقضات العصر:

من خلال تصوير الثوابت الشرعية كمعوقات للحضارة، ثم تقديم "قراءات معاصرة" تفرغ هذه الثوابت من مضمونها. كمن يدعو لإلغاء حد الردة بدعوى حرية الاعتقاد، متناسياً حماية الهوية الدينية للمجتمع.


أما نتائج ذلك فتشمل:

- تفكيك البنية التشريعية:

حيث يصبح كل فرد "مشرعاً" لنفسه، فتضيع الحدود بين الحلال والحرام في خضم التأويلات الفردية.

- أزمة المرجعية الدينية:

بانهيار الثقة في المؤسسات العلمية الشرعية لصالح "الفتاوى الاستعراضية" التي تقدم حلولاً سريعة دون التزام بالضوابط.

- انفصام الشخصية المسلمة:

بين التمسك بالهوية الدينية من جهة، وضغوط التحلل تحت مبرر "الاجتهاد" من جهة أخرى.

- استنزاف الطاقة الفكرية:

حيث تنشغل الأمة في نقاشات جانبية عن إثبات البديهيات، بدلاً من البناء الحضاري.


هذه الظاهرة لا تقتصر على دائرة الفتاوى الفردية، بل تمتد لتشكل تياراً فكرياً يروج لفكرة "الدين الشخصي" الذي يلغي فكرة الجماعة المسلمة الموحدة.

والدرس الأهم هو أن الانحراف عن المنهجية الشرعية (فهم النصوص بمقاصدها وشروطها) يؤدي دائماً إلى:

- إما تطرف في التشدد (كما عند الخوارج).

- أو تفريط في الثوابت (كما في بعض الممارسات الحديثة).


هذا الانزياح من "الدين كمرجعية" إلى "الدين كخادم" للرغبات البشرية يهدد بفقدان البوصلة الأخلاقية للمجتمع ككل.

فعندما يصبح كل شيء قابلاً للتعديل والتأويل، يفقد المجتمع أي معيار ثابت للحق والباطل، ويصبح "الذوق العام" هو الحَكَم الوحيد في الأمور التي كانت دوماً من اختصاص النصوص المقدسة.


المحور الثالث: التوازن المستحيل أم الضوابط المفقودة؟

في خضم هذه الإشكالية المعقدة، يبرز سؤال جوهري: هل يمكن تحقيق توازن حقيقي بين ثبات النص وحركة الواقع، أم أننا أمام معضلة وجودية في الفكر الديني المعاصر؟. للإجابة على هذا التساؤل، لا بد من تفكيك طبقات الإشكالية:


١. الطبقة الأولى تكشف أن أزمة العصر ليست في "التجديد" ذاته، بل في غياب الضوابط الحاكمة له. فالتجديد الحقيقي -كما مارسه الأئمة المجتهدون- كان دائماً محكوماً بأطر ثلاثة: اللغة العربية وعلومها، مقاصد الشريعة الكلية، والواقع الاجتماعي بتحولاته.

أما اليوم، فغالباً ما نرى "تجديداً" يهدر هذه الأطر جميعاً تحت ضغط "الحاجات المستجدة".

فتجديد الفهم كما فعل ابن تيمية في الاقتصاد بمعني الكشف عن أحكام شرعية كانت غائبة أو إعادة تطبيقها بمنهجية جديدة، مع الحفاظ على الثوابت.

فهو حين أعاد النظر في مسائل البيوع لم يخترع أحكاماً جديدة، بل كشف عن ضوابط شرعية موجودة أصلاً في النصوص لكنها غابت عن التطبيق.

أما تغيير التشريع -كما في تحليل الربا- فهو قلب للأحكام القطعية تحت ذرائع مختلفة. فالربا محرم بنصوص قرآنية صريحة ومتواترة، والإتيان بفتاوى تخالف هذا يعد انتهاكاً للضابط الأساسي في الاجتهاد: عدم مخالفة النصوص القطعية.


٢. الطبقة الثانية تظهر تناقضاً غريباً: فبينما يرفع المحدثون شعار "الواقعية"، نجدهم في كثير من الأحيان يعيشون قطيعة مع الواقع الحقيقي للمجتمعات المسلمة، ويستوردون حلولاً جاهزة من سياقات حضارية مختلفة.

إنه نوع من "الواقعية الوهمية" التي تتعامل مع النصوص كما تتعامل مع قطع "الليجو"، يمكن تفكيكها وإعادة تركيبها بلا ضوابط.


٣. أما الطبقة الثالثة فتكمن في إشكالية "فقه الأولويات" المقلوب. فبدلاً من تقديم حلول لقضايا الأمة الكبرى (كالفقر والظلم والتخلف العلمي)، نجد التركيز ينصَبُّ على قضايا هامشية تخدم أجندات خارجية، أو تلبّي رغبات نخبوية.

إنه تحويل للدين من مشروع حضاري إلى "سلعة استهلاكية" تروّج في سوق الأفكار.


في المقابل، يبقى الأمل في إعادة تأسيس "منهجية وسيطة" تجمع بين احترام النص الشرعي بكل قدسيته، وفهم الواقع بكل تعقيداته، والالتزام بضوابط الاجتهاد المعتبرة.


دور العلماء والمؤسسات:

١. مواجهة الفوضى الفتوية:

   - إعادة تأهيل مؤسسات الإفتاء لتكون قادرة على مواكبة العصر دون تنازل (مثل: تطوير أدوات البحث في مجمع الفقه الإسلامي)

   - توحيد المرجعيات الكبرى (كالأزهر وهيئة كبار العلماء) لسد الفراغ الذي تملؤه الفتاوى الشاذة

   - إصدار فتاوى جماعية بدلاً من الفردية، لضمان التكامل العلمي

٢. توعية الجمهور عبر:

   - برامج تثقيفية تبين علامات الفتوى الشاذة:

   - تناقضها مع الإجماعات التاريخية

   - اعتمادها على تأويلات متكلفة (كمن يحرف معنى "الربا" ليشمل فقط الربا الفاحش)

   - مخالفتها للمقاصد الكلية (كالفتاوى التي تهدر كرامة الإنسان)

 

هذا التوازن ليس مستحيلاً، لكنه يحتاج إلى شجاعة فكرية لنقد الذات قبل نقد التراث، وإلى صبر علمي لإعادة بناء الأدوات الاجتهادية، وإلى حكمة عملية لترتيب الأولويات.

فالدين ليس حكراً على المحافظين الجامدين ولا على المجددين الطائشين، بل هو مساحة واسعة للفهم العميق والعمل الجاد.


وفي الختام نقول:

المعركة الحقيقية اليوم ليست بين "التقليد" و"التجديد"، بل بين "الأصالة" و"الذوبان". الأمة التي لا تحافظ على ثوابتها تكون كالشجرة بلا جذور، تسقط بأول عاصفة. لكن الأمة التي تجمد عند الماضي تكون كالشجرة التي لا تنمو، تذبل وتضمحل.

الطريق الوحيد هو "تجديد الأصالة" و"تأصيل التجديد"، بحيث نكون كالسفينة التي تحافظ على ثبات هيكلها مع قدرتها على الإبحار في بحار العصر المتلاطمة. هذا هو التحدي الأكبر لجيلنا، وهذه هي المسؤولية التاريخية التي تقع على عاتقنا جميعاً.


اقرأ أيضًا

✅التدين السوسيولوجي: من التوازن الأخلاقي إلى القشور الشكلانية رابط المقال.

✅التدين البراجماتي: عندما يتحول الدين إلى درع واقِ بدلًا من ضمير حي رابط المقال.


تعليقات