نظريات الحكم الشرقية: التاريخ المطموس

نظريات الحكم الشرقية: التاريخ المطموس

 

نظريات الحكم الشرقية: التاريخ المطموس

نظريات الحكم الشرقية: التاريخ المطموس

لطالما سيطرت الرواية الغربية على دراسة الفلسفة السياسية، مقدمةً تاريخها كمسيرة تبدأ من مدينة أفلاطون الفاضلة، مرورًا بعقد هوبز الاجتماعي، وصولًا إلى ديمقراطية روسو.

لكن هذه الرواية تتجاهل عمدًا إرثًا سياسيًا عريقًا نمى في الشرق قبل اليونان بآلاف السنين. ففي وقت كانت فيه أوروبا تعيش في عصور ما قبل التاريخ، بل بلفظ أكثر انضباطا لم تكن هناك أوروبا، كانت هناك الحضارات الشرقية تضع الأسس الأولى لنظريات الحكم والدولة.

تكشف بردية "إيبور" - أقدم وثيقة سياسية معروفة (2000 ق.م) - عن تحليل عميق لأسباب انهيار الدولة المصرية، مقدمةً نظرية متكاملة عن الحكم الرشيد.

وفي الهند، وضع كاوتيلا "أرثاشاسترا" الذي يسبق "الأمير" لمكيافيللي بثمانية عشر قرنًا.

حتى مفهوم الديمقراطية - الذي يُنسب حصريًا لأثينا - نجد أشباهه في نظام "السابيا" بحضارة دلمون ومجالس "دار الندوة" العربية.

هذا المقال يسلط الضوء على هذه الحقائق المنسية، مستندًا إلى أربعة أدلة رئيسية تثبت أن:

  1. نظرية العقد الاجتماعي كانت حاضرة في الفكر الشرقي القديم.
  2. الحكيم إيبور سبق أفلاطون في صياغة نظرية "الملك الفيلسوف".
  3. النظم الديمقراطية البدائية وُجدت خارج اليونان.
  4. الفلاسفة السياسيون الغربيون تأثروا بشكل مباشر وغير مباشر بالشرق.


جذور السياسة الشرقية.

١. نظرية العقد الاجتماعي: الجذور الشرقية لفكرة تأسيس الدولة.

يُقدّم الفكر الغربي نظرية "العقد الاجتماعي" على أنها إنجازٌ حداثيٌ بحت، بدءاً من هوبز في "اللفياثان" (1651) ومروراً بلوك وروسو. لكن الحقيقة أن بذور هذه الفكرة ظهرت في الشرق القديم بأشكال متطورة:

  • نظرية "الماعت" المصرية (2500 ق.م):

- تتصور العلاقة فيها بين الفرعون والشعب كعقدٍ مقدس.

فنحن نجد النقوش الهيروغليفية في معبد الكرنك تؤكد على أن: "الفرعون خادم الماعت، وعدله هو الذي يمنحه الشرعية".

وبردية "تعاليم أمنمحات الأول" (أقدم دستور حكم) تنص على أن: "الحماية مقابل الطاعة"

  • إيبور وتحليل العقد الضمني (2000 ق.م):

- في بردية ليدن يحذر الحكيم إيبور من انهيار العقد الاجتماعي بسبب تخلي الحاكم عن مسؤوليته: "إذا خان الحاكم الماعت، انقلب النيل دمًا"

ويربط الحكيم إيبور في فكرة السياسي بين العدالة الاجتماعية واستقرار الدولة: "لا يثور الشعب إلا عندما يتحول القصر إلى مخزنٍ والبيت إلى قصر"

  • أرثاشاسترا الهندي (300 ق.م):

- نظرية "الدولة-المزرعة" حيث الملك "الحارث" والشعب "التربة". وفيها فصلٌ كامل عن "واجبات الملك" يشبه بنود العقد الاجتماعي.

  • النموذج الفارسي:

- نقش بيستون لداريوس الكبير: "بحق أهورا مازدا، حكمت بالعدل ليحكمني الشعب".


هذه النماذج تثبت أن فكرة "المقايضة السياسية" بين الحاكم والمحكومين بواسطة عقد يحدد لكل طرف مسؤوليات وحقوق، لم تكن اختراعاً غربياً، بل كانت ممارسة شرقية قديمة بُنيَت عليها النظرية الحديثة.

الفارق الوحيد هو أن الشرق صاغها بلغة دينية-أخلاقية، بينما قدّمها الغرب بلغة عقلانية قانونية.


٢. الحكيم إيبور: رائد الفلسفة السياسية قبل أفلاطون بقرون.

لنأخذ مثالا أكثر تحديدا عما سبق ذكره، وهو الحكيم إيبور.

في قلب الصحراء المصرية، بين رمال الدولة الوسطى (حوالي 2000 ق.م)، برزت شخصية فريدة تُعتبر بحق أول فيلسوف سياسي في التاريخ وهو: الحكيم إيبور.

تُعد بردية ليدن التي تحمل شكواه وثيقةً استثنائيةً تكشف عن عمق التحليل السياسي في مصر القديمة:

  • تحليل أسباب انهيار الدولة:
يصف إيبور ببراعة تحول المجتمع إلى فوضى الأغنياء في نواد، والفقراء على الضفاف. ويشخص هذه الأزمة كنتاج لثلاثية: فساد الموظفين، انهيار العدالة، غياب الحكمة.

ويحذر من أن "البكاء على النيل لا يرده لمجراه" (أي أن الإصلاح يحتاج فعلًا وليس شكوى).

  • نظرية الحكم الرشيد:

وفي سبيل تقديم الحلول بدلا من البكاء، يقدم معايير للحاكم المثالي وهو الذي : "يعرف صوت الصياد قبل صوت الوزير".

ثم يؤسس لمبدأ المساءلة: "القصر الذي لا يُسأل عن خزائنه سيُسأل عن أنقاضه".

ويربط بين العدل والازدهار: "حيث تُوزن الحقوق، هناك تفيض الخيرات".

لقد ترك الحكيم إيبور إرث فلسفي يصفه الباحث جان أسمن ويقول إن إيبور "سبق مكيافيللي في الواقعية السياسية"

إيبور لم يكن مجرد ناصحٍ أخلاقي، بل كان محللًا سياسيًا منهجيًا، وضع الأسس التي بُني عليها لاحقًا فكر أفلاطون وابن خلدون. وشكواه ليست مجرد مرثية، بل دراسة حالة سياسية-اجتماعية متكاملة تسبق عصرها بقرون.


٣. الديمقراطيات الشرقية القديمة - ما قبل اليونان.

لطالما ارتبط مفهوم الديمقراطية بالمدينة اليونانية، لكن الحفريات الأثرية والدراسات التاريخية الحديثة تكشف عن أشكال مبكرة من الحكم التشاركي في الشرق القديم.

في حضارة دلمون (البحرين حاليًا)، كان نظام "السابيا" يجمع شيوخ القبائل في مجلس تشريعي يتخذ القرارات بالإجماع.

أما في جنوب الجزيرة العربية، فقد عرفت مملكة سبأ نظام "المؤتمر السنوي" حيث يلتقي ممثلو القبائل لبحث شؤون الدولة.

وفي وادي السند، تشير الأختام الأثرية إلى وجود مجالس محلية تدير شؤون المدن بشكل تشاركي.

وحتى في مصر القديمة، نجد في عصر الانتقال الأول (2181-2055 ق.م) إشارات إلى "مجالس الحكماء" التي كانت تُشكل في الأزمات.

كل هذه النماذج تثبت أن الفكر الديمقراطي لم يكن حكرًا على اليونان، بل كان ظاهرة إنسانية واسعة الانتشار.


٤. جسور التأثير بين الشرق والغرب.

لم يكن التأثير الشرقي على الفكر السياسي الغربي مجرد صدفة تاريخية، بل ظاهرة منهجية يمكن تتبع خيوطها عبر القرون.

ففي القرن الخامس قبل الميلاد، اعترف هيرودوت في كتاباته بتأثر المشرّع اليوناني صولون بالنظم المصرية أثناء زيارته لمصر. كما أن أفلاطون، خلال إقامته في مصر، استلهم فكرة "الملك الفيلسوف" من النموذج الفرعوني.

وفي العصر الحديث، نجد الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو في كتابه "روح القوانين" (1748) يشيد بالنموذج الفارسي في الحكم، معترفًا بتأثره بنظام "الفرمانات" الذي ينظم حقوق الرعايا.

حتى الثورة الفرنسية، التي تعتبر ذروة الفكر السياسي الغربي، نجد تشابهًا مدهشًا بين مبادئها ودستور أمنمحات الأول المصري الذي يعود إلى 1990 ق.م. هذه التأثيرات المتبادلة تثبت أن الفكر السياسي الإنساني كان دائمًا حوارًا متواصلًا بين الشرق والغرب.


وتبعا لما سبق يمكن القول إن ها هي أسطورة غربية آخري تتهاوى ... فالفلسفة السياسية لم تكن يومًا حكرًا على أثينا أو باريس.

وإن سأل سائل: لماذا ندرس في جامعاتنا أن هوبز هو 'مؤسس' الفلسفة السياسية بعقده الاجتماعي؟ فالجواب: لأن هيمنة المنتصر لا تقتصر على الأرض، بل تمتد إلى كتب التاريخ!.


اقرأ كامل السلسلة أيضًا

✅تهافت المعجزة الغربية: تفنيد الأسطورة اليونانية في نشأة الفلسفة رابط المقال.

✅الماعت المصرية: تفكيك أسطورة الأخلاق الغربية العقلانية رابط المقال.

✅الوجودية الشرقية: إعادة اكتشاف الجذور المنسية للفلسفة الوجودية رابط المقال.

✅مدرسة ملطية: إعادة اكتشاف الأصول الشرقية لنظريات الوجود رابط المقال.

✅نظرية المعرفة: من عين رع إلى كانط رابط المقال.

تعليقات